من أكثر العبارات التي لا تزال عالقة بذهني من بطولة كأس العالم الأخيرة، عبارة «يرجى التكرم بالوقوف في حال القدرة». وهي العبارة التي كان يقولها مذيع الاستاد الداخلي قبل عزف السلامين الوطنيين لدولتي الفريقين اللذين سيلعبان المباراة. وهي عبارة لطيفة، تراعي وضع الحضور الذين لا يملكون القدرة على الوقوف لأسباب تتعلق بإعاقات بدنية، أو أمراض، أو ظروف خاصة، لكنها لا تعني من قريب أو بعيد أولئك المتشددين الذين يعتقدون أن الوقوف عند عزف السلام الوطني، أو أن تحية العلم، فعل حرام لا يجوز الإقدام عليه، فهؤلاء خارج حساباتنا، لأنهم استثناء يجب ألا يلتفت إليه أحد في المجتمعات ذات الفطرة السليمة.
من هذه العبارة الجميلة اللطيفة العالقة بالذاكرة من تلك البطولة الناجحة أقتبس فأقول، ونحن في بداية عام جديد أدعو الله أن يجعله سعيداً على الجميع: يُرجى التكرم بالوقوف لنماذج من البشر، يمرون علينا ويستحقون أن نقف لهم وعندهم، لأنهم منسجمون مع الفطرة السليمة، متوافقون مع مبدأ عمارة الأرض، التي خلق الله البشر من أجلها، في الوقت الذي يعمل فيه كثير من البشر في عصرنا هذا، مثلما فعل كثيرون غيرهم في العصور الغابرة، على إفساد الحياة وتدمير الأرض ومن عليها. أولئك هم ضد الفطرة السليمة، وضد الغرض الذي خلق الله من أجله البشر، وذرأهم في الأرض، ووعد بمحاسبتهم عندما يرجعون إليه في الدار الآخرة.
يُرجى التكرم بالوقوف لكل قائد أو حاكم أو رئيس يرعى مصالح شعبه ووطنه وأمته، فيسوسهم بما يرضي الله ويرضي ضميره، ويقودهم إلى دروب الخير والنماء، يهتم بأمرهم، ويهيئ لهم العيش الكريم الذي يتطلعون إليه، ويسخّر كل ما أفاء الله به على بلاده من موارد لصالح وطنه وشعبه، ولنا في قادة دولة الإمارات وحكامها مثل وقدوة، فالوطن، كما يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، غاية والمواطن هدف.
يُرجى التكرم بالوقوف لكل مسؤول يتحمل المسؤولية المكلف بها، ويؤديها بأمانة، ينفذ القوانين، لكنه لا يقدسها، يعمل بروحها لا نصوصها، متمثلاً توجيه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، لكل مسؤول في حكومة سموه: «الغاية من الإدارة الحكومية هي خدمة الناس، الغاية من الوظيفة الحكومية هي خدمة المجتمع، الغاية من الإجراءات والأنظمة والقوانين هي خدمة البشر. لا تنس ذلك. لا تمجد الإجراءات، ولا تقدّس القوانين، ولا تعتقد أن الأنظمة أهم من البشر».
يرجى التكرم بالوقوف لكل موظف، أياً كان نوع وظيفته وأياً كانت درجته الوظيفية، يؤدي هذه الوظيفة بإخلاص وتفان، يسعى إلى تسهيل أمور مراجعيه، الذين يتوقف مستقبل بعضهم على إنجاز معاملة صغيرة له دون تأخير، فربما استصغر البعض عملاً يقوم به وهو في نظر صاحب الحاجة كبير. «صاحب الحاجة لحوح» كما يكرر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في مداخلاته مع برنامج «الخط المباشر» في إذاعة الشارقة، موصياً بالصبر عند تلقي شكاوى الناس وبث همومهم، قائلاً لهم: «لا تقطعوا على الناس مكالماتهم».
يرجى التكرم بالوقوف لكل معلم يؤدي الرسالة التي يحملها على خير وجه. فقد كاد المعلم أن يكون رسولاً كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الشهيرة، فليس ثمة من هو أشرف أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفساً وعقولاً. وإذا كان المعلمون في عصرنا هذا لا يلقون التبجيل الذي يستحقونه، فإن العيب ليس فيهم، وإنما هو فينا نحن الذين لم نقدّرهم حق قدرهم، رغم أننا نضع بين أيديهم أغلى ما عندنا؛ أبناءنا فلذات أكبادنا.
يرجى التكرم بالوقوف لكل كاتب يراعي ضميره في كل ما يكتب وينشر. الكلمة أمانة، والأمانة عُرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولاً. على الكاتب أن يكون أميناً على الكلمة التي تخرج من قلمه، أياً كانت وسيلة نشر هذه الكلمة، خاصة في هذا الزمن الذي أصبح كل إنسان فيه كاتباً يملك وسيلته، ينشر ما يشاء، ويعلق على ما يشاء، يهاجم من يشاء ويدافع عمن يشاء، ليس عليه من رقيب سوى وعيه وضميره، وأصحاب الوعي والضمائر اليقظة في هذا الزمن قليلون.
ثمة نماذج كثيرة في هذه الحياة تستحق أن نقف لها، من الصعب أن نحصي عددها في هذه المساحة الصغيرة، فلعل العام الجديد يكون فرصة لاستدراك ما فاتنا، والوقوف احتراماً لمن يستحق أن نقف له.
* كاتب وإعلامي إماراتي