«الحدس» الحلقة المفقودة في قراراتنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك جزئية مهملة في حلقة قراراتنا، وعادة ما يقلل البعض من شأنها ألا وهي «الحدس». ففي علم الإدارة، عندما نتعمق في تدريب القياديين والمديرين على آلية اتخاذ القرار وتفاصيلها، نتوقف عند مقطع مهم جداً وهو «حدس» متخذ القرار Intuitive Decision Making. فهو جزء من علم اتخاذ القرارات وله أصوله ومبرراته وأساليبه.

وقبل ذلك، لنتذكر أن مراحل اتخاذ القرارات ترتكز على عناصر أساسية وهي: الملاحظة، وتحديد المشكلة، والبحث عن حلول، والبدائل، وتقييمها، ثم محاولة تجريب الحلول على نطاق أصغر قبل الشروع في تطبيق بعض القرارات. هذه هي خطوات اتخاذ القرار. ويأتي بعدها مسألة الحدس.

ولذلك يقول الرئيس التنفيذي لشركة آمازون جيف بيزوس «يجب اتخاذ أغلب القرارات بعد الحصول على 70 % من المعلومات، فإذا انتظرت الحصول على 90 % من المعلومات ففي معظم الأحيان ستكون بطيئاً في اتخاذ القرار. وفي كلتا الحالتين يجب أن تكون بارعاً في كشف وتصحيح القرارات الخاطئة. إذا كنت ماهراً في تصحيح المسار، سيكون اتخاذ قرار خاطئ أقل تكلفة مما تتوقع، بينما اتخاذ القرارات ببطء سيحمل كلفة أعلى»، حسبما نشرت مجلة HBR.

إذن الحدس، هو أمر يأتي بعد جمع المعلومات، وبذل قصارى جهدنا في فهم أبعاد القرار وكل الخيارات المتاحة، هنا يتدخل الحدس ليعطي القرار دفعة أخيرة، يرجو صاحبها أن تكون في الاتجاه الصحيح.

وقد «تتبعت الباحثة «لورا هوانغ» وضعية نحو 90 شركة اختارها المستثمرون على أساس قدرتها على النجاح، وكان اختيارهم هذا بناءً على حدسهم الغريزي، واستخلصت مجموعة من السمات التي يتمتع بها المستثمرون الذين يستطيعون تمييز الشركات الناجحة عن غيرها»، حيث أدركوا أن الحدس ليس منفصلاً عن المعلومات الموضوعية، وأنه لا يجب أن يكون الحدس مندفعاً أو سريعاً أو نابعاً من عاطفة بحتة بل مبنياً على الدقة والخبرة. وذلك بحسب مقال نشرته هارفارد بزنس ريفيو للباحثة لورا هوانغ.

والناس في حدسهم مشارب عدة. فهناك من يبني حدسه على معلومات سطحية، أو بعد تهميش آراء من حوله مهما كانت وجيهة، وذلك استناداً على سنوات الخبرة! وينسى أولئك أن السنوات مجرد رقم، فهناك من أمضى عشرين عاماً لكنه في موازين الخبرة قد أهدر وقته في مجرد عمل روتيني لم يعمق قدراته ومهاراته. حيث كان مخدوعاً بالمناصب «الرنانة» التي تبوأها إما بالأقدمية (مرض الإدارة الحديثة) أو بالقفز الباراشوتي في عقر دار الكفاءات، الذين كشفوا هشاشة هذا القادم الجديد عند أول مشكلة واجهها.

وهناك من يتأنون كثيراً قبل أن يضعوا «بهاراتهم» أو «ملح الطعام» (حدسهم) على القرار النهائي. وهناك أيضاً من ينسى أن تفويض القرارات لا يعفيه من المسؤولية. فمن حقي كمسؤول تحدي حدس مرؤوسي إذا لم يبنِ قراره على أمور وجيهة. في بعض الأحيان اضطر لقبول تلك القرارات، على سبيل منحهم فرصة إثبات خبرتهم أو عمق حدسهم الذي يفترض أنه قد جاء بعد مراحل اتخاذ القرارات.

وفي مقابلة صحافية، سئل الحائز جائزة نوبل في علم النفس الاقتصادي دانيال كانمان: لو كانت لديك رسالة واحدة تود إيصالها للناس من أبحاثك وكتبك في اتخاذ القرارات، فما هي تلك الرسالة؟ فقال من دون تردد: سأطلب منهم ألا يتسرعوا بالاندفاع نحو حدسهم قبل جمع كل الحقائق المتاحة.

ومن أكثر التحديات التي تواجه الناس في العمل، ذلك المسؤول الذين يتردد كثيراً في اتخاذ القرار، ويخاف من الاجتهاد أو إبداء حدسه، وهي مسألة طبيعية في تفاوت قدرات الناس، لكنه في الوقت نفسه لابد أن يحيط نفسه بالأكفاء ليسندوه عند اتخاذ قرارات مصيرية. وطالما بقي «شبح الخوف» مخيماً على متخذ القرار فإنه على الأرجح لن يتقدم خطوة نحو إحداث تغييرات جوهرية في عمله. فالخوف أكبر عقبة تحول دون اتخاذ القرار ناهيك عن محاولة «الإقدام» على الحدس أياً كان شكله!

 

Email