الرأي والحقيقة وما تفعله وسائل التواصل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يختلف اليوم اثنان على أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت عبر محتواها في تغليب الرأي على الحقيقة، وهو الأمر الذي لم يكن يتوقعه البعض من هذه الوسائل سيما في جانبها الإعلامي المحض. وهذه المعلومة ليست جديدة بل كثيراً ما وردت مؤكدة في دراسات عديدة وتناولتها كتب حديثة الصدور بشيء من التفصيل. وبالفعل لو نظر المرء إلى الحياة العامة لوجد أن هنالك الكثير ممن يعطي أهمية كبيرة لتجربته الشخصية على حساب البيانات والحقائق، أو يلجأ إلى الحلول السريعة ممزوجة بآراء الآخرين في شبكات التواصل الاجتماعي. ومما يصعب تصوره أن يتطور الوضع لدى بعض الباحثين، من أسف، فيعتمد معلومات نشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن يعتبر هاته الوسائل مصدراً أو مرجعاً يستحق الثقة العلمية!

 إن الركون إلى سلوك بات شبه مألوف في راهن وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وإن بدا في جانب منه تلقائياً أو عفوياً، فإنه يسهم بشكل مؤثر في (تصدّع الحقيقة)، أو أقله يؤدي إلى طمس الفارق بين الرأي والحقيقة، أو جعلهما يتداخلان على نحو مضلِّل وفقاً لما جاء في دراسة حديثة للباحثين الأمريكيين (جنيفر كافاناغ) و(مايكل دي رش). 

إن ما يضع الحقيقة في مهب الريح على الدوام، هو أن يتضافر سوق الإعلام في وضعه الراهن مع محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، إذا ما تحوّل سوق الإعلام الحالي إلى مواجهة الصحف التقليدية العتيدة وشركات البث الإذاعي، الأمر الذي من شأنه دفع قطاعات من الناس إلى تحزّبٍ متزايدٍ لبعض المصادر الإخبارية غير الجادة وغير الرصينة. 

ومن المعاول التي تستهدف الإساءة إلى الحقيقة، المطالب التنافسية المفروضة على النظام التعليمي في أنحاء عديدة من العالم، إذ هي لا تحد فقط من قدرة التعليم على مواكبة المتغيرات في النظم المعلوماتية، إنما أيضاً تقلِّل فيه من نسبة الحرص على التربية المدنية والمعرفية الإعلامية والتفكير النقدي بين الطلبة. ومن الأمثلة على ذلك أن بعض المنظمات الإعلامية باتت تستقي الاستشارات والأخبار المستندة إلى الرأي بدلاً من اعتمادها على الحقيقة في صحافة الأخبار الجادة، وذلك لسبب بسيط هو أن الطريقة الأولى (اعتماد الرأي) ليست مُكلفة مالياً، إضافة إلى أنها تسمح بعملية تكييف للمحتوى على نحو انتقائي، الأمر الذي يجعل العامة لا تفرّق في ما تقرأه وتشاهده بين الرأي والحقيقة. وهنالك مثال آخر هو أن عدم اعتماد السياسة على الحقائق يؤدي إلى الشك. والشك يغيّب عن الأفراد والمؤسسات والخصوم والحلفاء، المعايير والبيانات الموضوعية التي يمكن الاعتماد عليها في صناعة القرارات.

وقد يكون لمثل هذا الشك تبعات اقتصادية كبيرة كعرقلة الاستثمار، وغياب الصدقيّة الدولية، وفرض تحديات في العلاقات الدبلوماسية بين الدول. إن الموضوع مفتاح لبحث جدير بالدراسة المعمقة التي من المحتمل أن تنتهي إلى تصورات تفضي إلى نظرية ما زالت غائبة راهناً.

Email