حتى يسهم العنف المفروض في بناء عالم جديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

عاشت فرنسا الأسبوع الماضي على وقع مقتل 3 أكراد وإصابة 3 آخرين إصابات متفاوتة الخطورة أمام مركز ثقافي كردي في باريس، ما أثار ردود فعل غاضبة للجالية الكردية في فرنسا وصلت إلى حدّ ممارسة العنف والتصادم مع الأمن.

منفّذ الجريمة التي يحتدّ الجدل في شأن طبيعتها العنصرية أو الإرهابية فرنسي متقاعد يبلغ من العمر 69 سنة وله سوابق عديدة وقضايا جارية في ممارسة العنف وخصوصاً ضدّ الأجانب، وقد اعترف في التحقيق الأوّلي معه بأنّه «لا يحبّ الأجانب» وهو استهدف بجريمته الأكراد، وتفاعلاً مع ما جرى، استنكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما وصفه بـ«الهجوم المشين الذي استهدف الأكراد في فرنسا»، مؤكداً تعاطفه «مع الضحايا والأشخاص الذين يكافحون من أجل عيش أسرهم وأحبابهم»، ومن جهته كان وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانا ذكر أنّ «الحكومة طلبت من الشرطة تعزيز الحماية حول مواقع الجالية الكردية في فرنسا»، مستبعداً أن يكون منفّذ العملية تصرّف بالتنسيق مع أطراف أخرى.

وتصرّ الجالية الكردية في فرنسا في المقابل على الطبيعة الإرهابية للعملية وخصوصاً أنّه تمّ استهداف «مناضلينا بالاغتيال في مناسبة سابقة لم يُكشف حتى الآن عمن يقف وراءها رغم التأكيد على ضلوع إحدى الدول فيها».

ومعلوم أنّ المشهد السياسي في فرنسا كما في عدد من الدول الغربية شهد تحوّلاً كبيراً نحو اليمين الذي يتبنّى خطاباً معادياً للوجود الأجنبي الذي أضحى يهدّد في تقدير بعض هذه الأطراف تماسك المجتمعات الغربية وترى أطراف أخرى، بدأ نفوذها يتوسّع، أنّ هذا الوجود الأجنبي أصبح يمثّل خطراً محدقاً على «نقاوة» و«صفاء» مجتمعاتها، وهو الأمر الذي ترى فيه جهات سياسية وحقوقية أخرى أنّه خطاب «يؤسّس لعنصرية غير مقبولة ولا تتماشى مع كنه الموديل الديمقراطي الغربي».

ويُرجع الملاحظون تنامي وجود اليمين المتطرّف في أوروبا عموماً وفي فرنسا تحديداً، إلى فشل المثال المجتمعي الاندماجي الذي يؤسّس وحدة الثقافة وأحاديتها على النسيج القانوني الذي ينطبق على الجميع بقطع النظر عن تنوّع الأصول الثقافية، وترتدّ في هذا المثال المجتمعي الخصوصيات الثقافية إلى مجرّد مسألة حقوقية تهمّ واجبات وحقوق الأقلّيات.

ويقابل هذا المثال، آخر في الولايات المتحدة الأمريكية بالأساس لأسباب تاريخية ومتعلّقة بظروف نشأة هذا البلد الذي انطلق متعدّد الثقافات ويتعايش فيه الجميع على أساس التنوّع والاختلاف، وكان الاعتقاد يسود بأنّ هذا المثال يمكن أن يقي المولود الجديد مآسي الصراعات التي بدأت القارّة العجوز (أوروبا) تشهدها.

ويقيننا أن تفسير تنامي اليمين المتطرّف لا يمكن إرجاعه إلى اعتماد الدول والمجتمعات هذا المثال أو ذلك لأنّ تطوّرات الأحداث في أوروبا كما في الولايات المتحدة الأمريكية أظهرت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ ظاهرة اليمين المتطرّف مرتبطة بطبيعة النظام الليبرالي عموماً.

إنّ حدّة الانقسام المجتمعي الذي تعرفه أوروبا وفرنسا على وجه التحديد شكل آخر للذي عرفته الولايات المتّحدة في السنوات الأخيرة وهو الذي حمل الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وهو الانقسام ذاته الذي كاد يعصف بالديمقراطية الأمريكية في الانتخابات الأخيرة التي أعطت جو بايدن الفوز ما دفع أنصار ترامب إلى الهجوم على مقر الكونغرس «كابتول»، وبذلك فإنّ فهم ظاهرة اليمين المتطرّف وظاهرة التطرّف عموماً ومن ذلك التطرّف اليساري يجد جذوره أيضاً وبالأساس في طبيعة النظام الليبرالي المتوحشّ الذي لا يُعير التضامن المجتمعي في الداخل والتضامن بين المجتمعات والشعوب اهتماماً ، وهو ما دفع على المستوى الداخلي الأطراف المجتمعية إلى محاولة خلق آليات الحماية الذاتية باعتماد معارضات سياسية ما انفكّت تتّخذ طابعاً متطرفاً وعنيفاً على مستوى الخطاب والممارسة، وعلى المستوى الخارجي بدأت تتطوّر لدى الشعوب والأمم الأخرى النزعات الوطنية، ما دفعها إلى تطوير آليات حماية اقتصاداتها ومجتمعاتها والنزوع أكثر إلى بناء تحالفات جديدة على أساس الشراكة والتضامن والأمن والسلام في إطار عالم متعدّد ومتنوّع يقطع مع النظام العالمي السائد الذي وصل إلى منتهاه.

وإنّ سرعة الوعي بهذه التطوّرات التي لا مناص منها هي ما سيحدّد ما إذا كانت ظاهرة العنف «بنّاءة» ووقتية أو هي ظاهرة هدّامة ومرشّحة للدوام، وقد قيل قديماً إنّ «العنف محرّك التاريخ» ونضيف إنّ شرط ذلك، الوعي بخطر العنف الهدّام.

 

Email