حرب باردة بمواصفات زمن آخر

ت + ت - الحجم الطبيعي

للأزمات الكبرى العابرة للحدود والحروب الساخنة قدرة، لا تبارى على امتحان الرؤى والنظريات، التي يطرحها فقه العلاقات الدولية، وهي أيضاً مختبرات واقعية لسبر أغوار المقاربات والخطابات الإنشائية، التي تعرضها القوى والكيانات الدولية أو تدعي الاستئناس بها في أوقات الاستقرار.

مؤدى ذلك أن الحروب لا تترك آثارها في مواضعها فقط، وإنما تمارس أدواراً وأفاعيل ترقى أحياناً إلى إحداث تغييرات إقليمية أو حتى عالمية، على صعد موازين القوى العسكرية والاقتصادية وأحجام النفوذ والسطوة، وأنماط التحالفات والتكتلات الأيديولوجية والسياسية، وأنه لا يعزى العثور على نماذج لحروب أفضت إلى تحولات فارقة، جزئياً أو كلياً، في الحدود الجغرافية ونظم الحكم والإدارة لبعض الدول والأقاليم، فضلاً عن تغييرات جوهرية في القوانين والشرائع المنظمة للتعاملات الدولية والهياكل والأطر التنظيمية الساهرة عليها. تشهد بذلك نتائج حربي القرن الماضي العالميتين وتوابعهما في الجهات الأربع.

ما يهمنا من هذه التعميمات أن نلحظ السرعة القياسية، التي تجلت بها، وانتشرت آثار أزمة تفشي وباء «كورونا» من ناحية، ثم الحرب الأوكرانية من ناحية أخرى، بحيثيات أشد وأقوى، وذلك مقارنة بالوتيرة الأبطأ التي صاحبت، أو ترتبت على أزمات وحروب شهيرة أخرى.

الفكرة بهذا الخصوص أن كياناً في عالمنا لم يفلت من هذه الآثار، حتى ليمكن الاعتقاد عن جدارة أن الوباء تمكن في عاميه الأولين من تكميم أنوف كل سكان الكوكب تقريباً. هذا في حين ألقت الحرب الأوكرانية، بعد مرور بضعة أسابيع على اندلاعها، ظلالاً كئيبة على مصير الأمن والسلم العالميين، وتوالى تمدد هذه الظلال عاجلاً، ولا سيما إلى حقول الغذاء والطاقة وسلاسل التجارة والإمداد وعوالم المال والأعمال في طول العالم وعرضه، لدرجة غشيان بيوت وموائد وجيوب أناس، لا يعلم بعضهم أين تقع أوكرانيا.

في زمن الحرب الباردة، التقليدية جدلاً، استغرقت حروب كوريا ولاوس وكمبوديا وفيتنام أكثر من عشرين عاماً، وعرف العالم غزو أفغانستان، مرة من القطب السوفييتي لزهاء عشرة أعوام، وأخرى من القطب الغربي لفترة أطول، وحوصرت كوبا أمريكياً، وما زالت محاصرة نسبياً لستين عاماً، ومر سباق التسلح بأطوار أدت إلى كسر ظهر المعسكر الاشتراكي برمته، ولم يسلم إقليم في عالمنا من عواقب محاولات التغلغل في أحشائه، وحرف بوصلته لصالح هذا القطب أو ذاك. ومع هذا ومثله كثير، لم يجأر معظم أبناء الكوكب بالشكوى ولا نالت منهم المخاوف والأراجيف الجماعية، على غرار ما جرى خلال أقل من عام على خلفية حرب أوكرانيا !

ومن مؤشرات استثنائية أصداء هذه الحرب، واختلاف قوة إشعاعها أن مجرد تلويح القوى العظمى باحتمال استخدام أسلحة الدمار الشامل في سياقات الحروب السابقة كان متغيراً نادر الحدوث، بقدر ما كان داعياً لوقوف الدنيا على أطراف الأصابع. أين هذا من ردود الأفعال، التي تتعاطى الآن مع هذا الاحتمال بشيء من الفتور والاعتيادية، وذلك على الرغم من تناوله يومياً تقريباً بالتلميح أو التصريح في الأخبار السيارة ؟!

في ضوء أزمة الوباء إياه اكتشف خلق كثيرون مدى ضعف جاهزيتهم الصحية، وأثناء الهرولة بحثاً عن الحلول والمقاومة الوقائية، اتضح أن المصالح الوطنية الضيقة تعلو، ولا يعلى عليها. وعلاوة على التكرارية المملة لحديث الردع النووي أظهرت الحرب الأوكرانية أن 40% من سكان العالم برمته يتغذون على أقماح يستوردونها من الدولتين المتحاربتين فقط. ومع افتراض أن حقيقة كهذه كانت معلومة من قبل فإن السؤال هنا هو كيف عجزت بقية دول العالم، التي تناهز المئتين، عن الاحتياط لطارئ انقطاع هذه الواردات؟ لا يصح إلقاء عيب كهذا على عوامل الطبيعة والمناخ، والقول الساذج إنها منحت ميزة إنتاج الأقماح لروسيا وأوكرانيا أكثر من غيرهما. الأقرب للمنطق أننا إزاء عوار في التخطيط الاقتصادي الاستراتيجي، لم يَنجُ منه إلا النزر اليسير من الدول.

ويمكن أن يقال مثل ذلك عن موقف الأوروبيين تحديداً من إمدادات الطاقة، وكيف أنهم تبينوا في لهيب الحرب شدة اعتمادهم على المصدر الروسي، الذي يناهضونه، بما ساقهم إلى اتخاذ مواقف عشوائية، أنتجت خلافات عميقة مع هذا المصدر، وخلافات أخرى بين بعضهم البعض، وخلافات وتبادل للتلاوم مع الحلفاء الأمريكيين.

حين يعالج أهل الذكر عبرة ما جرى بين يدي أزمتي الوباء والحرب، فالأرجح أنهم سيدركون كيف أن عالمنا كان بصدد حرب باردة أخرى، تختلف نسبياً عن تلك، التي عرفها النصف الثاني من القرن الماضي، وهذا سوف يستدعي منهم إعادة النظر، نسبياً أيضاً، في رؤاهم ومقارباتهم وتحليلاتهم النظرية.

 

Email