جاء رحيل الرئيس الصيني الأسبق جيانغ زيمين مؤخراً، ليسدل الستار على مسيرة طويلة لهذه الشخصية، التي قادت الصين في مرحلة التغييرات العميقة من عام 1989 وحتى بداية الألفية، وليثير في الوقت نفسه الجدل مجدداً حول عهده وسياساته.
ومن المفارقات أن غيابه حدث في وقت تشهد فيه بعض التظاهرات في ظل القيود المرتبطة بمكافحة وباء كورونا، وهي الحالة التي سادت الصين وقت صعوده إلى السلطة سنة 1989، ممثلة في تظاهرات «تيان إنْ مين».
تمثلت ردود الفعل الرسمية حيال خبر وفاته في المظاهر المعتادة في مثل هذه المناسبات، وبيانات الإعلام الحكومي، التي وصفته بـالقائد الثوري والشيوعي العظيم، لكنها جرت كلها وسط إجراءات أمنية صارمة، خوفاً من أن تستغل المناسبة في غير سياقها.
لم يكترث المراقبون كثيراً بردود الفعل الرسمية، باستثناء بروز فضول لدى بعضهم لمعرفة إن كان خليفته (الرئيس السابق «هو جينتاو»، الذي أخرج من مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم في أكتوبر الماضي) سيظهر في مراسم التأبين، وحينما تأكدوا من ظهوره العلني لأول مرة منذ تلك الحادثة، وجهوا بوصلتهم إلى ردود الفعل الشعبية.
والحقيقة أن مواقف الصينيين حيال الرجل كانت دوماً متباينة، بسبب انقسامهم حول شخصه وسياساته وعهده، لكن الانقسام والجدل حوله قد يكون اليوم أقل حدة من السابق، خصوصاً إذا ما عقد المواطن الصيني مقارنة بين زمنه والزمن الراهن.
ما يحسب لجيانغ، مهندس الكهرباء المتخرج من المعاهد السوفييتية، أنه حينما صعد إلى السلطة في يونيو 1989 خلفاً لزميله تشاو زيانغ، الذي أُقصي بسبب مواقفه المهادنة لمتظاهري «تيان إنْ مين»، كان التضخم متصاعداً ويهدد الاقتصاد في الداخل، وكان الأسلوب المستخدم ضد المطالبين بالتغيير قد ضيّق على الصين خارجياً، لكنه نجح في غضون فترة وجيزة في إحداث الانتعاش الاقتصادي المطلوب، وتدشين عقدين من النمو بمعدلات مرتفعة، وإعادة بلاده إلى المسرح العالمي كقوة عظمى.
ومما يحسب له أيضاً أنه كان من ذوي الأفكار المرنة، بدليل أنه تحول من صاحب فكر اقتصادي محافظ إلى مؤيد لسياسات الزعيم الإصلاحي دينغ هيسياو بينغ، الداعية إلى تحرير الاقتصاد، وذلك بعد أن انتقده الأخير في جولاته وخطبه في أقاليم الصين الجنوبية مطلع التسعينيات.
ومنذ تلك اللحظة وضع يده في يد دينغ هسياو بينغ، وقاما بما لم يتمكن أسلافهم من القيام به أو لم يكونوا راغبين فيه، وهو إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة عبر خصخصتها أو إغلاقها، وعلى الرغم من أن هذه الخطوة كانت ضرورية من أجل إعداد وتهيئة الشركات الصينية للمنافسة المباشرة في السوق، والتكامل مع الاقتصاد العالمي، إلا أن تسببها في تسريح العمال وفقدان نحو 40 مليون صيني لوظائفهم، ناهيك عن تسبب سياسات التحرير الاقتصادي في إحداث تفاوتات اجتماعية واقتصادية، جعل الكثيرين يحنقون عليه، ويتخذون منه موقفاً مناوئاً.
ومن هنا قال البعض في موضع تعليقه على خبر وفاته: إن جيانغ زعيم صيني عظيم، لكن اسمه يثير ذكريات مريرة مرتبطة باحتجاجات «تيان إنْ مين» من جهة، وتسببه في معاناة الملايين معيشياً من جهة أخرى، وقال البعض الآخر إن جيانغ بقدر ما عالج مشكلات كثيرة، فإنه ترك مشكلات أكثر لخليفته، الذي اضطر إلى تبني سياسة تنموية أكثر توازناً، ووجه موارد أكثر إلى المناطق الفقيرة.
إلى ما سبق يدين الصينيون بفضل كبير لجيانغ وطاقمه الاقتصادي، لنجاحه السريع في معالجة آثار الأزمة المالية الآسيوية العاصفة سنة 1997، وهو ما ساعد الصين على اكتساب عضوية منظمة التجارة العالمية عام 2001، ومهد الطريق لها لاحقاً لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2008.
ومن مآثر جيانغ الأخرى المختلف عليها أنه الزعيم، الذي استعادت الصين في عهده مستعمرتي هونغ كونغ البريطانية، وماكاو البرتغالية، فمع هذين الحدثين التاريخيين ترسخت في أذهان سكان البر الصيني صورة جيانغ كونه قائداً مقتدراً لم يساوم في مسألة توحيد البلاد، لكن ما ترسخ في أذهان هونكونغيين كثر هو صورة جيانغ كونه أول من أرسى عملية قضم مكتسباتهم وخصوصيات جزيرتهم، فتبعه خلفاؤه، وزادوا عليه.
وأخيراً فإن التاريخ سيذكر لجيانغ أنه صاحب أول انتقال منظم للسلطة السياسية في الصين الشيوعية منذ تأسيسها، وإن كان قد احتفظ ببعض التأثير من بعيد لسنوات عدة بعد تنحيه عن منصب الأمين العام للحزب الشيوعي.