كرة القدم حينما تواجه العنصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل لاحظتم المفارقة المهمة التي توقف عندها كثيرون في مباريات كأس العالم المقامة حالياً في العاصمة القطرية الدوحة؟


في مباراة المنتخبين الفرنسي والتونسي في دور المجموعات، والتي انتهت بمفاجأة طيبة وهي فوز الفريق التونسي الشقيق بهدف للاعبه وهبي الخرزي، كان عدد اللاعبين ذوي البشرة السمراء في الفريق الفرنسي الأوروبي أكبر من عدد اللاعبين من ذوى البشرة السمراء أنفسهم في الفريق التونسي الأفريقي.


هذه الملاحظة ليست جديدة، فهي موجودة منذ فترة ليست قليلة، لكنها تنمو وتتزايد وتتعاظم كاشفة عن حجم العولمة الكروية، والتي أدت إلى توجيه ضربة مهمة للأفكار العنصرية، لكنها لم تتمكن من القضاء عليها تماماً.
كرة القدم وكما صار معروفاً ومثبتاً، لم تعد مجرد «لعب عيال» كما كان الكثيرون منا يعتقدون في الماضي، ولم تعد للإلهاء، لكنها صارت نشاطاً إنسانياً وإبداعياً مهماً، يتداخل فيها الفكر والتخطيط والترويج والإبداع والصناعة والتجارة والتسلية بالسياسة والاقتصاد. وإذا كانت العولمة قد تعرضت لضربة كبيرة بعد الأزمة الأوكرانية والصراع الصيني الأمريكي، فإنها لا تزال فاعلة كروياً.


نتذكر أن الفريق الفرنسي الفائز ببطولة كأس العالم لكرة القدم في عام 1998، كان معظم لاعبيه من ذوي البشرة السمراء والملونة، خصوصاً باتريك فييرا وتييري هنري ودافيد تريزيغيه وويليام تورام.


نتذكر أيضاً أن فوز هذا الفريق بالبطولة كان ضربة قوية للأفكار العنصرية التي كانت ولا تزال القوى اليمينية الشعبوية ترفعها.


 فهذا الفريق وغالبية لاعبيه من أصول أفريقية أو كاريبية مهاجرة، هو الذي منح فرنسا النصر، وجعل اليمين المتطرف يتغنى بفرنسا الأوروبية!. والأمر نفسه يتكرر تقريباً مع الفريق الفرنسي الحالي الذي وصل إلى الدور النهائي للبطولة.


ونتذكر أيضاً أن العولمة الكروية لم تعد حكراً على الفريق الفرنسي، فاللاعبون ذوو البشرة السمراء والملونة صاروا أغلبية أحياناً في العديد من الفرق الأوروبية، ومنها المنتخب الإنجليزي والسويسري، بل والأمريكي ورأينا لاعباً أسمر البشرة في المنتخب الأسترالي، وهو الذي أهدر فرصة تسجيل هدف قاتل في الوقت الضائع خلال المواجهة مع الأرجنتين في دور الـ 16.


الكرة نجحت فيما أخفقت فيه السياسة، ورأينا المنافسات الكروية تحجم وتقلص إلى حد كبير الأفكار العنصرية. على سبيل المثال فإن نجم نجوم المنتخب الفرنسى كيليان مبابي والدته جزائرية ووالده كاميروني.
وخلال وجوده في قطر قال قبل أيام قليلة: «الكاميرون والجزائر جزء مني وأشجع كليهما، ولا أفضل أحداً منهما على الآخر، صحيح جنسيتي فرنسية، ولكن أصولي جزائرية وكاميرونية، لا يمكن إنكار ذلك، وأنا سعيد للغاية بهذا الأمر».


وعقب الفوز التاريخي للمغرب على إسبانيا في دور الـ 16، هنأ مبابي زميله في باريس سان جيرمان المغربي أشرف حكيمي عبر حسابه على «تويتر» بتغريدة، أرفقها بعدد من الرموز التعبيرية مثل تاج الملك والقلب والبطريق، في إشارة لاحتفال حكيمي بعد تسجيل ركلة الجزاء الأخيرة والحاسمة.


طبعاً هناك نماذج عكسية لعبت فيها الروح، العنصرية دوراً ملحوظاً، كما حدث مع اللاعب الألماني المسلم ذي الأصول التركية مسعود أوزيل، الذي تعرض لهجوم حاد من المشجعين الألمان في بطولة كأس العالم عام 2018، ووقتها أعلن اعتزاله اللعب مع المنتخب الألماني وقال ما معناه: «حينما أجيد وأحرز الأهداف وأضعها يعاملوني كألماني وحينما أخفق يتذكرون أنني تركي ومسلم فقط»!، لكن الأوساط الكروية الألمانية تنفي أن تكون الانتقادات التي وجهت لأوزيل سابقاً سببها دينه أو عرقيته.


وما يحدث من عولمة كروية لم يعد قاصراً على أوروبا فقط، بل وصل إلى منطقتنا العربية، وصار هناك تجنيس للاعبين كثيرين، خصوصاً في منتخب قطر الذي يضم لاعبين من أصول سودانية وجزائرية ومصرية وأوروبية.


العالم يتغير والكرة تلعب دوراً مهماً في ذلك، ووصل الأمر إلى أن تشكيل بعض الفرق الأوروبية، كان كله من اللاعبين الأجانب. وهذا الأمر لم يعد يثير استغراب أحد باستثناءات قليلة، مثلما حدث في نادي أتلتيك بلباو الإسباني الذي يرفض منذ تأسيسه عام 1898 ضم ليس فقط اللاعبين الأجانب، بل من خارج إقليم الباسك، الذي يطالب بالانفصال عن إسبانيا.


 مثله تماماً جاره نادي ريال سوسيداد لكنه بدأ يغير سياسته حينما تعاقد مع الويلزي جون ألدريدج عام 1989.


الرياضة عموماً والكرة خصوصاً تلعبان دوراً مهماً في تقريب المسافات بين الشعوب وداخل المجتمع الواحد، لكن ذلك مشروط بوجود روح رياضية تنافسية فعلية، وليس «الهمبكة» و«الفهلوة» الموجودة بعضها في العديد من العالم الثالث.


 *رئيس تحرير صحيفة «الشروق» المصرية

Email