أعلنت أحد أشهر دور النشر التي تتخذ من لندن مقراً لها (دار الساقي) الانسحاب من شرف خدمة المشهد الثقافي العربي، بعدما اضطرت أن تخضع للتحديات التي تواجهها «بعض» دور النشر. دار الساقي، التي كانت مقصداً لكل من يؤم عاصمة الضباب، وجدت نفسها أمام ضائقة مادية، على ما يبدو، وانضمت إلى دور أخرى عربية وأجنبية قررت تقليص عملياتها أو توديع الميدان الثقافي إلى الأبد. وقد فعلت مكتبة الربيعان في الكويت الأمر نفسه عندما قرر صاحبها يحيى الربيعان تصفية مكتبته بعد تدهور مبيعاتها، وذلك ببيع الكتاب بسعر ربع دينار كويتي (أقل من دولار واحد أمريكي) في حين أن تكلفته دينار واحد (نحو 3 دولارات). بلغة الأرقام قرر أن يبيع كتبه بخسارة فادحة، حتى جاء الديوان الأميري في الكويت في موقف تاريخي لدعم أيقونة بيع الكتب وأول مدير لمعرض الكويت الدولي للكتاب عام 1975، وذلك عبر دعم سخي للاستمرار برسالة نشر المعرفة. وقد سررت حينما رأيت المكتبة شامخة في معرض الكويت الدولي للكتاب (الخامس والأربعين)، حيث حمل صاحبها لواء نشر المعرفة الذي يعد بحق من الرعيل الأول للترويج للكتاب.
كشخص مختص في عالم الأعمال، لا أستطيع أن استسلم لمعطيات السوق. ففي كل صناعة، هناك منافسة ضارية تزداد وتقل وتيرتها، وهناك ممارسات خارجة عن الإطار الأخلاقي في التنافس، وهناك أيضاً تحدٍ داخلي في المؤسسات نفسها التي ربما لا تدرك آفاق تغيير فكرة «نموذج العمل» business model. وقد وقعت حادثة شبيهة في الكويت عندما قرر متجر فيرجن (الإنجليزي) افتتاح أكبر مكتبة ربما في تاريخ الكويت في قلب مول تجاري وفي مكان بارز ومكلف جداً، لكنه بعد سنوات أدرك على ما يبدو بحسه التجاري، أن متجراً بهذا الحجم لا يمكن أن يستمر في بيع الكتب فقط. فبدأ بإدخال منتجات إلكترونية تنافسية وغيرها من ملحقات بالكتب وعوالمها (كالقرطاسيات وما شابه) في مسعى للاستمرار.
خلاصة الأمر أن دور النشر تعاني بالفعل، لكن التزام أعداد كبيرة منها في حضور معارض الكتب في شتى عواصم العالم العربي دليل على أن هناك من يشتري ويبيع ويهتم بالكتاب الذي كان وما زال المصدر الرصين للمعرفة. مشكلتنا أننا لا نميز بين الكتاب بصورته الورقية والإلكترونية، فأياً كانت صيغته هو في النهاية كتاب. وقد اقتطعت بالفعل الكتب الإلكترونية والمسروقة (بنسخ بي دي أف) من حصة بيع الكتب التقليدية، فلم يعد لدى القارئ الرغبة ولا المقدرة على انتظار وصول كتاب مهم ذاع صيته أو أحيته تزكية من أحد مشاهير المجتمع أو وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا يدعونا إلى ضرورة تجديد صور الكتاب وإيجاد معادلة مربحة وعادلة لدور النشر تضمن توافر الكتب الإلكترونية إلى جانب الورقية.
كما أن المشكلة برأيي تكمن في مزيد من تراجع المدارس الحكومية عن دورها التثقيفي، في «تحبيب» ملايين العرب بالكتاب. وأقصد تحديداً الحكومية، لأن جل العرب يدرسون فيه. خذ على سبيل المثال بلداً غنياً كالكويت، لا يدرس في المدارس الخاصة سوى 18 في المائة من المواطنين (نحو 70 ألفاً) يتركز معظمهم في المدارس الأجنبية التي لم تفلح على ما يبدو في «تحبيب» الشباب بالكتاب وفق مشاهداتي من مخرجات هذه المدارس «الأجنبية».
كما أنه ينبغي أن تعيد دور النشر النظر في إبداعية التصميم، وجاذبية الأغلفة وقبل ذلك كله جودة المحتوى ورفع سقف إبداعه. فلا يعقل أن نقبل كتاباً هابطاً ونحرم القارئ من كتب جميلة. ولابد أيضاً أن تراعي دور النشر عنصر الزمنية أو توقيت الكتاب وتكثف حملاتها الإعلانية والتسويقية للاستفادة من زخم النشر، لا أن تنتظر كما جرت العادة المعارض لتتبادل الكتب مع نظيراتها. فالقارئ يريد أن يصله الكتاب إلى أي مكان. ولذلك اقترح أن تقوم مؤسسة عربية حكومية بمبادرة كبرى كطرح شركة لا تهدف للربح المبالغ فيه ولكنها تضمن وصول الكتاب إلى كل عربي في جميع أقطار العالم بأسعار معقولة، وفترة زمنية مناسبة، حتى ينتعش سوق النشر من جديد.
شخصياً اعتبر الكتاب سلعة، وكل سلعة لابد أن نراقبها بدقة، ونفهم أسباب عدم انتشارها لنحاول ردم الهوة بين الكتاب وجمهوره. وسوف يبقى الكتاب خالداً ومصدراً أصيلاً للمعرفة مهما تعددت منصات المعلومات في الإنترنت، لأن فيه جهداً هائلاً، وهو في النهاية منتج للعالم والأديب والشاعر وصاحب السير الذاتية الزاخرة بالعطاء والنجاحات والعثرات التي تأتينا على طبق من ذهب. وقبل ذلك كله الكتاب هو مصدر للمتعة قبل أن يكون مصدراً للفائدة. وقد صدق الجاحظ حين قال «إن الكتاب إذا نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك.. ومنحك تعظيم العوام». وسيبقى الكتاب أياً كان شكله خالداً في سماء المعرفة والمتعة والدهشة والفائدة.