شخصيات تحت المجهر

حجي بن جاسم الحجي.. ما بين الكويت والبحرين والسعودية ودبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

توجد في الكويت عائلات عدة تحمل الاسم نفسه، لكنها لا تلتقي في الجذور والنسب، ولا توجد صلة قرابة بينها. من هذه العائلات عائلة الحجي التي لم يكتب عنها الكثير ولم يسلط ما يكفي من الأضواء على رجالاتها، على الرغم من بروز عدد معتبر منهم في مناحي الحياة المختلفة.

تنقسم الأسرة التي تحمل لقب «الحجي» في الكويت إلى قسمين: «الحجي النواخذة» (يسمون أيضاً «بن حجي»)، وهم سكان فريج بن خميس في الحي الشرقي من العاصمة، وهؤلاء ينتمون إلى قبيلة المناصير، ونزحوا إلى الكويت قبل أكثر من 200 عام فبنوا منازلهم على البحر مباشرة قبالة مبنى وزارة الخارجية الحالي.

القسم الثاني من آل الحجي في الكويت تعود أصولهم إلى قبيلة الدواسر، وهم ممن نزحوا قديماً إلى الكويت من وادي الدواسر بنجد، وأول ما سكنوا في منطقة القبلة من العاصمة، وبرز منهم العديد من الأعلام، ومنهم المرحوم حجي بن جاسم الحجي، الذي سيكون محور حديثنا هنا، لما تميزت به مسيرته العملية من كفاح وسفر وتنقل دائم للارتقاء بذاته في الزمن الصعب، ناهيك عن ما اصطبغت به روحه من مشاعر وطنية صادقة فجعلته قلقاً ومهموماً بأحوال بلده وأمته العربية.

ولد حجي بن جاسم بن محمد الحجي الدوسري بمنزل جده لأمه المرحوم أحمد الرشيد بالقرب من مسجد النبهان في منطقة الوسط من العاصمة الكويت في 30 يناير 1903م، وكان والده قد حل بالكويت قادماً من بلدة السليل النجدية. ووالدته تنتمي إلى عائلة الرشيد البداح التي كانت قد نزحت هي الأخرى إلى الكويت من مدينة الزلفي النجدية، بل هي أخت الشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرشيد المنعوت بمؤرخ الكويت، لأنه أول من أصدر مؤلفاً عن تاريخ الكويت عام 1926، والمنعوت أيضاً برائد الصحافة، لأنه كان صاحب أول مجلة كويتية عام 1928.

وهكذا فإن الشيخ عبدالعزيز الرشيد هو خال الحجي، وأبوه الروحي، والشخصية التي تأثر بها، فكانت نشأته في أجواء مفعمة بالأدب والثقافة والمعرفة من جهة، وبالتقوى والاستقامة من جهة أخرى، إذ كان الخال يأخذ ابن أخته معه ويطوف به على مجالس العلم والعلماء والشعراء والأدباء، فنشأ متأثراً برواد حركة الإصلاح والنهضة والأدب في الكويت، الذين كان خاله الرشيد أبرزهم، وهو ما حوله إلى واحد من شعراء الكويت الأوائل ممن قاد بشعره حركة الإصلاح الاجتماعي...

تلقى الحجي تعليمه في البداية بمدرسة الملا زكريا الأنصاري، وفي عام 1913 انتقل منها للدراسة بالمدرسة المباركية، حيث كان خاله الرشيد يعمل مدرساً قبل أن يصبح مديرها ما بين عامي 1917 و1919. بقي الحجي طالباً مجتهداً يدرس بالمباركية لمدة ست سنوات انتهت بانتقاله إلى المدرسة العامرية..

كان أول عمل امتهنه الحجي بعد تخرجه في تلك المدارس وتتلمذه على يد لفيف من أوائل المربين، هو التدريس في المدرسة المباركية، حيث كان من الأمور الاعتيادية في تلك الحقبة أن ينهي التلميذ دراسته بتفوق من مدرسة ما، ثم يختاره مدرسوها لينضم إليهم زميلاً في الهيئة التدريسية بالمدرسة ذاتها. وهكذا نرى أن الحجي زامل معظم من تلقى العلم على أيديهم، فاستفاد وأفاد. ظل الرجل يعمل مدرساً في المباركية لمدة ثلاث سنوات انتهت بانتقاله مع كل زملائه المعلمين للعمل في المدرسة الأحمدية. ومما يذكر عنه أنه قام بتدريس الكثيرين من أعلام وشيوخ ووجهاء الكويت إبان عمله في سلك التدريس، ومنهم: الشيخ صباح السالم الصباح، وبدر خالد البدر القناعي، وعبدالعزيز العلي العبدالوهاب المطوع، وغيرهم.

وأثناء عمله مدرساً بالأحمدية، لم يجد الحجي أدنى حرج في العودة إلى مقاعد الدراسة تلميذاً، إذ قاده طموحه العلمي والمعرفي وحرصه على الارتقاء بذاته إلى تعلم اللغة الإنجليزية من خلال الالتحاق في عام 1922 بمدرسة المستشفى الأمريكاني المعروفة باسم «مدرسة كالفرلي».

واستطاع الرجل بفضل ذكائه وإصراره واجتهاده أن ينهي مقررات المدرسة ويصبح متمكناً من اللغة الإنجليزية..

في عام 1925 ترك التدريس بالأحمدية، وراح يبحث عن وظيفة أخرى مختلفة وذات دخل أكبر.

سافر الحجي براً إلى الأحساء ضمن الكويتيين الذين ذهبوا إلى هناك، حيث إن إمارة الأحساء تقدمت خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي بطلب الاستعانة بمجموعة من رجالات الكويت المتعلمين لإدارة شؤون الأحساء الإدارية والمالية والجمركية، فأقام الحجي فيها مدة لا بأس بها موظفا في إداراتها. ورغم أن الرواتب الممنوحة آنذاك كانت مجزية وملبية لطموحات الكثيرين من هؤلاء الكويتيين لجهة تحسين ظروفهم المادية، إلا أن صاحبنا لسبب ما قرر العودة إلى الكويت.

بعد ذلك سافر بحراً إلى البحرين، التي كانت وقتذاك تعج بفرص العمل والنشاط التجاري إلى جانب حركة ثقافية وأدبية وعلمية نشطة، فوصلها عام 1925، حيث عمل كاتباً ومسؤولاً عن المراسلات لدى التاجر يوسف بن عبدالرحمن فخرو (1873 ــ 1952) الذي كان في تلك الحقبة من كبار تجار البارود والتمر واللؤلؤ... عمل صاحبنا بتفانٍ واجتهاد عند فخرو لمدة تسع سنوات عاصر خلالها الكثير من الأحداث التي مرت على البحرين، ومنها تدفق النفط بكميات تجارية من أراضيها سنة 1932.

وفي عمل يدل على قلق الحجي المستمر من جهته، ورغبته في التجديد والبحث عن الأفضل، نراه يترك البحرين في مطلع الثلاثينيات ويتجه مرة أخرى إلى السعودية، وذلك للعمل مع شركة أرامكو في بدايات نشوئها وتطور أعمالها. لم يكن التحاق الرجل بأعمال أرامكو في مركزها الرئيسي بمدينة الظهران صعباً، فمؤهلاته، ولا سيما إجادته اللغة الإنجليزية، سهلت الطريق أمام توظيفه مترجماً ومدرساً براتب مجزٍ، بدليل أنه سرعان ما تمكن من ادخار مبلغ معتبر اشترى به منزلاً عربياً لإقامته بوسط مدينة الخبر.. وصار يشار إلى منزل الحجي هذا كأول مدرسة تمّ تأسيسها بمدينة الخبر، وتعلم فيها موظفو أرامكو السعوديون الأوائل ومنهم أول وثاني مديري أرامكو من السعوديين (علي إبراهيم النعيمي وعبدالله صالح جمعة على التوالي).

وبعد أن عمل لمدة قاربت 12 سنة هناك، انتقل للعمل بالدمام مترجماً عند أمير المنطقة الشرقية الراحل سعود بن عبدالله بن جلوي آل سعود، حيث رافق الأخير مستشاراً ومترجماً للقاءاته مع ضيوفه الأجانب، بل سافر بمعيته إلى الخارج في رحلات عدة، منها رحلته إلى الهند في الخمسينيات.

ومرة أخرى نجد الرجل يكرر ما فعله سابقاً، فيستقيل من وظيفته في إمارة المنطقة الشرقية، لكن هذه المرة بداعي الخلود إلى الراحة والعلاج، ويختار السفر إلى لبنان من أجل ذلك.

نحن الآن في منتصف خمسينيات القرن العشرين تقريباً والحجي يخلد إلى الراحة والتأمل ومراجعة حساباته في بيروت، فإذا بمسؤولي الخطوط الجوية الكويتية يتصلون به عارضين عليه تولي قيادة مكتبهم حديث التأسيس ببيروت. يقبل الرجل العرض المغري ويصبح مديراً لـ«الكويتية» في لبنان لبضع سنوات، قبل أن يقرر في عام 1957 العودة مجدداً إلى وطنه للمساهمة في نهضته وتنميته وقد صارت الكويت على مشارف الاستقلال، وهنا قيل إن الحجي كان يتوق للحصول على منصب متقدم في التشكيلات والتغييرات التي أعقبت استقلال الكويت سنة 1961، بسبب خبرته ومؤهلاته، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، إذ تمّ تعيينه مسؤولاً في بلدية الكويت فوافق، حيث تمّ اختياره لعضوية اللجنة العقارية بالبلدية، ثم ما لبث أنْ صدر قرار عام 1963 بانتدابه إلى إمارة دبي لإدارة مكتب أنشأته الكويت لتقديم المساعدات التنموية والفنية في المنطقة.

أخذ الحجي عائلته معه وسافر إلى دبي لتولي منصبه الجديد، فعاش فيها عدة سنوات من عمره، ثم استقال وعاد إلى الكويت ليعيش فيها متقاعداً عن العمل الحكومي، مع رحلات كل صيف إلى لبنان للراحة، إلى أن انتقل إلى جوار ربه في مصيف شتورة اللبناني في 22 يوليو سنة 1974م، فتمّ نقل جثمانه إلى الكويت ليدفن فيها.

للحجي إخوان ليسوا أقل شهرة منه، وإن كانت دروبهم مختلفة، فأخوه الأكبر هو «الملا عبدالرحمن جاسم الحجي»، وهو من مواليد سنة 1907، ودرس الفلك بمكة المكرمة عام 1930.. أما أخوه الأصغر فهو وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأسبق بدولة الكويت الشيخ «يوسف جاسم الحجي» (1923-2020)، الذي تولى هذه الحقيبة الوزارية في الفترة ما بين 1976 و1981..

وأخيراً فإن لحجي جاسم الحجي شعراً جيداً في موضوعات متنوعة سياسية ووطنية واجتماعية وتربوية وغزلية، وكانت له مبادرات شعرية ومراسلات مع عدد من شعراء زمنه، مثل الشاعرين صقر الشبيب وحسن بن السيد زيد النقيب، ووصفه خاله عبدالعزيز الرشيد بـ«الشاب الأديب والفاضل اللوذعي».

Email