مصالح الدول تعلو ولا يُعْلى عليها

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المنتظر أن يبدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء 30 نوفمبر 2022 زيارة دولة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مصحوباً بوفد وزاري هامّ وتطغى عليه المشاغل الاقتصادية والعسكرية، ومن الجانبين يتمّ تقديم هذه الزيارة على أنّها تندرج في إطار «تمتين العلاقات الثنائية وتطويرها»، ولكن أغلب الملاحظين يرون في الزيارة محاولة لعودة الدفء إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين التي عرفت بعض الفتور إثر دخول الولايات المتحدة على الخطّ في صفقة الغوّاصات بين فرنسا وأستراليا وتحويلها لصالحها.

وبصرف النظر عن مآلات هذه الزيارة فإنّ رمزيتها الأساسية تأتي لتؤكّد التحوّلات الكبرى في الاتجاهات العامة «الجديدة» التي تحكم العلاقات الدولية، والتي أضحت محكومة بالكامل وبالوضوح التامّ ودون مواربة أيديولوجية وسياسية، بمصالح الدول والأوطان فقط لا غير.

وإنّ أزمة «كورونا» التي تكاد تكون شلّت الحركة الاقتصادية في العالم على مدى عامين، وكذلك تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية أكّدا الرجوع القويّ للسياسات الحمائية الوطنية والقومية، وهو ما يؤسّس لعالم متعدّد الأقطاب ويقطع بالتالي مع عالم القطب الواحد الذي هيمن منذ ثمانينات القرن الماضي والإعلان عن موت الأيديولوجيا وتوحّد العالم حول نظام واحد هو الليبرالية الغربية والذي تحكّمت فيه أمريكا بالكامل وطغت فيه قيم الليبرالية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

يتّجه العالم إذن نحو تعدّد القطبية السياسية والاقتصادية والثقافية والمؤشّرات على ذلك عديدة ومنها أساساً عودة النزعات القومية وطغيان الأولويات الوطنية على التعاون بين الدول وتنامي الفكر الشعبوي الذي غذّى النزعات الوطنية المتطرفة في عديد الدول مع تفاقم الأزمات الاقتصادية، ولا يبدو أنّ هذه التطورات الجديدة تلقى هوى لدى الولايات المتحدة الأمريكية التي من مصلحتها الأساسية والوطنية أن تكون الأقوى بلا منازع ولا حليف فعلي تتقاسم معه «غنائم» نظام القطب الواحد.

ولا يبدو أنّ الأزمات الاقتصادية المتتالية التي أضعفت الدول التي تُعتَبر تقليدياً حليفة للولايات المتحدة، ستسهل على هذه الدول مجابهة الحراك المجتمعي المتنامي، ومقابل ذلك لم نلاحظ على مدى السنوات استعداد أمريكا الكافي لمساعدة «حلفائها» على تجاوز أزماتهم الاقتصادية والاجتماعية، إذ إنّ منطق المنافسة الشرسة ومصالح اقتصادها لا يسمحان لأيّ رئيس ديمقراطياً كان أم جمهورياً بالقيام بذلك، بل على الأرجح يفرض عليه هذا المنطق مزيد استغلال الوضع لفائدة أمريكا، ولا غرابة إذاً أن يشهد العالم ملامح «انتفاضة» الدول ضدّ حليفتهم الأولى الولايات المتحدة الأمريكية والتي يعلم الجميع أنّها تعرف أوضاعاً سياسية واقتصادية داخلية صعبة وحرجة لا قِبَلَ لها بمواجهتها إلّا باستمرار نظام القطب الواحد الذي يمكّنها من الاستفادة القصوى وتخفيف وطأة الضغوطات الداخلية المتصاعدة وكذلك يعطيها الدور الأساسي في توزيع فتات الغنائم على «حلفائها»، وهو وضع وصل بحسب الملاحظين إلى منتهاه، فلا «الحلفاء» الغربيون (أوروبا ) بإمكانهم مواصلة القبول بهذا الوضع، وثانياً، لا دول الشرق الأدنى والأقصى ( الصين تحديداً) التي تشهد انفجاراً غير مسبوق للمدّ الوطني والقومي ستسمح على المدى القريب والمتوسط بذلك، وثالثاً، يبدو أنّ دول الشرق الأوسط هي الأخرى سلكت طريق المصلحة الوطنية، وقد يكون تعاطي الولايات المتحدة الأمريكية المشبوه والملتبس مع الظاهرة الإخوانية سهّل على هذه الدول سلك طريق مصلحة دولها ومجتمعاتها، وذلك بالسعي الجدّي إلى القضاء على الأسباب التي رهنتهم على مدى السنوات لأمريكا مقابل حماية ما انفكّت تفتر على مدى السنوات.

كلّ الدلائل تشير إذاً إلى أنّ العالم يتجه إلى عالم متعدّد الأقطاب والمصالح بعد أن كان على مدى سنوات محكوماً بالقطب الواحد قبل تحريك معطى «الإخوان» والإرهاب الذي شوّش على التطوّر الطبيعي في اتجاه هذا العالم الجديد.

إنّ وعي الدول يزداد بأنّ النزاعات الإقليمية والدولية المصطنعة هي عائق أساسي أمام تطوّر الأمم والشعوب وأنّ «التوجّهات المستقبلية يجب أن تركّز على الاقتصاد والازدهار وتعزيز الشراكات لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة» والتضامن بين الأمم والشعوب.

وإنّ العائق الأساسي في طريق هذا التوجّه هو استمرار النزاعات والحروب الكلاسيكية التي تغذّيها وتتشبّث بعض الأطراف بها، وليس من باب التفاؤل القول بهذا، ولكنّ مصالح الدول والمجتمعات تعلو ولا يُعْلى عليها وستفرض قوانينها عند اللزوم.

Email