أوروبا و«ربيع التطرف».. نقطة نظام

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما إن أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية الإيطالية الأخيرة، غلبة قوى اليمين المتطرف، بزعامة جورجيا ميلوني، حتى وضع الغيورون على التجربة الاتحادية الأوروبية، أيديهم على قلوبهم، معتبرين أن هذه النتيجة تعزز زحف الأحزاب المتربصة بالتجربة، الأمر الذي تجلى من قبل في دول أخرى، كالسويد والنمسا وفرنسا.

في غضون هوجة الجدل حول هذا الحدث، الفارق وغير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، قيل إنه يعود إلى «استمرار الأزمة الأوكرانية، واستفحال الإشكاليات الاقتصادية، وأبرزها نقص إمدادات الطاقة، وتعقيدات ملف الهجرة واللجوء». ويبدو أن أصحاب هذا التفسير قد انفعلوا بمجريات اللحظة، فألقوا باللائمة على متغيرات وأسباب نرى أكثرها حديث النشوء.

وذلك يتعارض مع واقع المنظورات السلبية تجاه المسيرة الاتحادية، التي يعود اعتناقها وتفشيها لدى بعض قطاعات المجتمعات الأوروبية، إلى عقود مضت، وهو ما أدى في بريطانيا، مثلاً، إلى مغادرة التجربة كلياً.

القصد أن القارة الأوروبية لم تخل يوماً من التيارات الشعبوية والانعزالية ذات الأحانين القومية المتعصبة الممتعضة من التوجه الاتحادي، ونكاد نقطع بأنها لازمته منذ كان جنيناً.. وكل ما في الأمر، أن رؤاها تبدو أكثر تبلوراً وسطوعاً في مشهد الاجتماع السياسي، بين يدي سياقات الأزمات العاصفة، على غرار وباء «كورونا»، والحرب الأوكرانية وتوابعهما..

ولعلها تسطع أيضاً حين تجد المدد والتشجيع من قوى خارجية ذات سطوة ونفوذ كبيرين، في جوف القارة، ومعنية بحالها ومآلها، كالولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب.

المتطرفون الشعبويون و«القومجيون» المتعلقون بالنوازع القومية، ليسوا غرباء عن الشارع الأوروبي. وربما تأتي صدمة الصعود الصارخ لأنصار هذه التيارات في روما، من كون إيطاليا أحد الأعمدة الرئيسة التي نهضت على أكتافهم التجربة الاتحادية خلال السبعين عاماً الماضية. غير أن على المتخوفين من هذه الصدمة، تذكر أنهم إزاء نظام سياسي كان الأقل استقراراً والأكثر توتراً خلال هذه الفترة الممتدة، ليس فقط قياساً ببقية نظم المؤسسين، بل ومقارنة أيضاً بنظم دول القارة كلها..

في كل حال، لا ينبغي لتفصيلات بورصة المضاربات والسجالات المفتوحة راهناً، بخصوص صعود وهبوط التيارات الأيديولوجية وأجنحتها السياسية، في هذه الدولة الأوروبية أو تلك، أن تشغلنا عن تأمل ما يعتمل في الغابة القارية بقدها وقديدها. إن فعلنا ذلك، أدركنا، مع المعنيين والمتابعين عن كثب، كيف أن تضخم اليمينيين والمتعصبين في ربوع القارة عموماً، لا يبشر بخير، لا لداخل القارة ولا لخارجها. ندفع بهذا التقدير، وفي خاطرنا بإيجاز، أن هذا التضخم هو المسؤول الأول عن معظم، إن لم يكن عن كل، المنافسات والمنازعات المريرة التي ثارت بين دول القارة العجوز، خلال القرون الثلاثة الأخيرة.

ولا يخفى عن الذاكرة الإنسانية، أن المشاحنات والشقاقات القومية الأوروبية الداخلية، تمددت إلى عوالم الآخرين، في هيئة موجات استعمارية، ثم أفضت إلى حربين عالميتين، أدمتا وجه الدنيا بأسرها في النصف الأول من القرن الماضي.

حين يضع الأوروبيون بكافة توجهاتهم عقولهم في رؤوسهم، سوف يعيدون استدعاء هذه الحقائق، ويتفهمون مغازيها العميقة، وسيدركون أن التوجه الاتحادي بين «الإخوة القوميين الأعداء»، ألمانيا وفرنسا بالذات، الذي بدأ بالتعاون الاقتصادي، وحث خطى التطور نحو الشراكات الأخرى، السياسية وغير السياسية، كان العامل المباشر في استقرارهم الأمني ووقايتهم من هبوب رياح التقاتل، وهيأ لهم السبل إلى مكانة دولية راسخة على كافة الصعد، خلال الخمسة والسبعين عاماً الأخيرة.

وإذا جنح القومجيون المتعصبون إلى مراجعة مواقفهم بعقل بارد، بمعزل نسبي عن خطابهم الأيديولوجي شبه العنصري الزاعق، سيكون من الحكمة بمكان، أن يتدبروا في مصيرهم ومصير قارتهم برمتها، إن قدّر لمثل هذا التعصب الانتشار والسيطرة، أو وصل إلى سدة الحكم وصناعة القرار، في دول لها تاريخ مقبض مع مثل هذا الخطاب؟! تصدع التوجه الاتحادي أو انزواؤه أو أفوله أوروبياً، لا سيما في دول لا تفتقر لعناصر القوة ولا للتاريخ العنصري، سوف يلبد الفضاء القاري، وربما الدولي، بغيوم داكنة، عرفنا معنى وجودها من قبل.

ثم إن التفكير العقلاني مطلوب من هؤلاء أيضاً، لاستدراك مدى الخطأ الذي يقترفونه في معالجتهم السطحية لقضية الهجرة والمهاجرين.. فاستقبال مجتمعاتهم لأبناء الجنوب، يوشك أن يرقى إلى مصاف الحتمية التاريخية، بأكثر من كونه خياراً. ولهم أن يسألوا في ذلك معطياتهم وبياناتهم الموصولة بحقائق العجز السكاني وضعف الخصوبة ونقص المواليد، وحاجتهم الملحة للأيدي العاملة الوافدة.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email