معرض الشارقة.. كتب وأفكار ووجوه

ت + ت - الحجم الطبيعي

معرض الشارقة الدولي للكتاب طوى الأحد الماضي عباءته المطرزة بقصب الثقافة، وحرير الفكر بعد 13 يوماً من المعرفة، التي طفحت مواعينها عن حواف المتوقع زمناً وعدد عناوين، والجديد أن أيام المعرض زادت يوماً إضافياً هذا العام، ما دفع أهل الثقافة فكراً وأدباً وفنوناً يتطلعون إلى العام المقبل، بأمل أن يكسب المعرض من الكرماء القائمين عليه يومين آخرين، ليصبح بذلك المعرض الأول في كامل الجغرافيا العربية والإقليمية، الذي يستقبل رواده لنصف شهر بكامل قيافته الباذخة.

أوقاتي الأجمل أمضيتها في المعرض وقت العصر، جلتُ خلالها على ما تيسر من أجنحة الناشرين، ترسخ بعض أسمائها في الذاكرة من زمن، وبعضها الجديد هدفتُ إلى التعرف عليه، يدفعني إلى ذلك هاجس المواكبة ورؤية الجديد المستمر بتجدده. وبينما أجول وأتصفح، ألتقي بعض الوجوه، التي لم أرها منذ فترة طويلة، فتبتهج النفس باللقاء وما يتلوها من حديث مقتضب فيه مودة وفيه حنين، ولعل هذه إحدى المثابات الأعمق للتظاهرات الثقافية والأكثر مسرة بعد اقتناء الكتاب.

ويصاحبك في التجوال وسط الكتب في أبهى احتشاداتها أفكار متحركة، لا تكاد تستقر في رأسك على حال، من تلك الأفكار: كم من المبدعين كتاباً وأدباء وفنانين ممن تتقافز أسماؤهم على الأرفف في مرمى النظر، يدينون للإمارات مجتمعاً بشرياً وبيئة معرفية وثقافة قيمية، بذواكرهم النابضة- كلها أو جزء منها- وقد دفعتهم إلى أرضها الطيبة أسباب مشروعة ومقاصد، ليمضي بعضهم فيها ردحاً طويلاً من الزمن لم يكن ليتوقعه حين قدم؟ والجواب كثير منهم، فطفقت من فوري أبحث عن الأسماء التي أسعفتني بها الذاكرة، لأقتني مؤلفاتهم التي تعدّت العشرين مؤلفاً بين رواية وقصة وديوان شعر ودراسة أدبية نقدية وكتاب يضم لوحات تشكيلية. هي وجبة معرفية كافية من دون شك، والأهم أنها تحمل تحفيزاً للتفكير في مشروع كتاب يتحدث مضمونة عن الذواكر وعلاقة مكوناتها بجغرافيا الإقامة. يبدو أنها فكرة تحمل جدارتها، لكن الفيصل في هذا أناقة التنفيذ.

أحد أهم الكتب التي التقطتها من المعرض كانت رواية (برهوم بيك) للأديب والصحافي السوري محمد شعبان، التي يبدو أنها تنحصر في علاقة متميزة بين شخص متشرد يُدعى برهوم بيك، وآخر مثقف، يتلاقيان في مقهى في مدينة دمشق، وهذا التعريف هو الذي تناقلته وسائل الإعلام عند صدور الرواية عن دار (هاشيت أنطوان- نوفل) العام الماضي 2021 وموجودة في جناحه بمعرض الشارقة. وبحسب معلوماتي عن محمد شعبان، الذي تزاملنا على مدى سنوات طويلة في العمل الصحفي في دولة الإمارات أن روايته برهوم بيك هي العمل الروائي الخامس، ومحمد شعبان مدين بجزء من ذاكرته إلى الإمارات، تجلى ذلك في روايته الأولى التي حملت العنوان (مجنون بحيرة خالد)، بحبكتها السردية، وأسلوبها السلس المتدفق، ما جعلها تحظى بجدارة (الجائزة الثانية في مسابقة الشارقة للإبداع 1997)، ولعله الوحيد بين قلة أدبية أتى على ذكر المكان بتفاصيله وعلاقة الانتماء، التي نسجها بكثير من الحميمية، وقد أصبح جزءاً منه يحمله جنباً إلى جنب مع موطنه الأم سوريا.

إن القراءة المتأنية لرواية برهوم بيك تدفع للاستنتاج بأن الحوارات، التي شغلت أكثر من نصف الكتاب الذي جاء في 300 صفحة، هي حوارات جرت بين الشخصيتين الرئيسيتين، ولم تكن غاية في جوهرها، بل قنطرة سردية لتنقل حياة المتشرد و«الأستاذ»، الذي تباسط وعطف وجلس مع برهوم وآواه، ليبوح له من ثم بماضيه الذي رسا به على الوحدة وكهف العزلة، وشدد من وطأتهما غربته عن مكانه ومحيطه، وابتعاده عن أصدقاء المصلحة، وأعداء النجاح. ثمة صوت وصدى بين الشخصيتين. حوار قد يكون قابلاً للتفكيك على أنه امتداد لحوار مع الذات، التي تواجه أشباح الغربة، قال بذلك عدد من النقاد، هي علاقة تستمد صدقيتها من الغربة والمسافة، لا القرب، ولعل ما جاء لدى أنسي الحاج في تعبيره عن هذه العلاقة الإنسانية قائلاً: «أغلب اعترافاتنا أفضينا بها إلى أشخاص تعرفنا بهم للتو، لا نُسر إلى القريب، الحميمية تتم مع الغريب، لأنه بئر... راحلة».

الرواية بحق تستحق القراءة والتوقف عندها طويلاً، فمحمد شعبان خصص قلمه للاجئين والمهمشين والضعفاء في زمن صعب مر، ويمر على المكان.

Email