منطق الحرب وثقافة السلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمثل ظاهرة الاحتباس الحراري خطراً داهماً يهدد مستقبل الأرض والكائن البشري، وهو الأمر الذي جعل الأصوات تتعالى منبهة من مغبة وصول الأمر إلى حد يستحيل تداركه، وهذه الظاهرة هي ناجمة عن الازدياد المفرط في الانبعاثات الغازية المسببة لارتفاع متوسط الحرارة على سطح الأرض، وفي الجو، وكذلك كميات غاز ثاني أكسيد الكربون وغازات أخرى، ما يؤثر بشكل كبير على التوازنات البيئية، وارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات، بما ينبئ حتى بتلاشي بعض الدول، وتختلف حدة تداعيات ظاهرة الاحتباس الحراري من منطقة إلى أخرى.

وقد بدأ رصد الزيادة في متوسط درجة الحرارة منذ منتصف القرن العشرين، كما لوحظ استمرارها المتصاعد، بما أصبح يمثل خطراً حقيقياً، وهو ما دفع الدول والمنظمات الدولية إلى محاولة إيجاد الحلول الكفيلة بالتصدي لهذا الخطر المتصاعد، وذلك بمحاولة القضاء على أسبابه، وهي بالأساس نتيجة لتصرفات الإنسان.

وجاءت اتفاقية بروتوكول كيوتو الموقعة سنة 1997 في مؤتمر الأمم المتحدة حول التغيرات المناخية، لتجسد بداية التطبيق الفعلي لاتفاقية الأمم المتحدة، التي أعلنت فيها المبادئ العامة حول الموضوع، وهي أول معاهدة بيئية دولية انبثقت عما يعرف بقمة الأرض في البرازيل سنة 1992.

وتهدف اتفاقية كيوتو إلى الحد من الانبعاثات الغازية وتثبيت نسبتها، وهو التزام محمول بالخصوص على الدول الصناعية الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، علماً بأنهما يتسببان في قرابة 50 % من انبعاثات الغازات السامة.

ولعل أهم تداعيات الظاهرة تحملتها، وتتحملها الدول الفقيرة ودول الجنوب عموماً، وهي المسؤولة فقط عن 3 % من هذه الانبعاثات الغازية، ومع ذلك كانت هذه الظاهرة سبباً مباشراً في خسارتها لـ525 مليار دولار أي لربع ناتجها القومي الخام، وقد حاولت قمة كوبنهاغن في 2009 إيجاد حلول لمساعدة هذه الدول الفقيرة لترميم اقتصاداتها وتمويل تركيز الصناعات البديلة فيها، ولكن تنفيذ الدول الغربية لالتزاماتها في هذا الخصوص كان مخيباً للآمال.

وكان يراد لقمة الأمم المتحدة حول التغييرات المناخية، التي انطلقت أعمالها في مصر الأسبوع الماضي، أن تجد الحلول الكفيلة بإلزام الدول الغربية بالوفاء بالتزاماتها تجاه الدول الفقيرة، كي تواجه تداعيات ظاهرة مناخية لا مسؤولية لها فيها، وتوفير التمويلات الضرورية لذلك، ولكنها نجحت فقط في تحديد سقف هذه الالتزامات بـ100 مليار دولار على مدى الـ 10 المقبلة، علماً بأن حاجات دول الجنوب لمجابهة هذه الظاهرة المناخية وتركيز صناعات بديلة تقدر بـ2.4 تريليون دولار، بحسب تقرير حديث حول الموضوع، والذي أشار تفصيلياً إلى أن الدول النامية تحتاج إلى تريليون دولار سنوياً، وذلك إلى حدود 2030 نصف هذه التمويلات من التمويلات الخارجية، والنصف الآخر محمول على دول الجنوب ذاتها.

ورغم أن التزامات الدول هي دون المأمول إلا أنه لا تفوتنا الإشادة بنجاح مصر في تنظيم هذه القمة، التي شهدت نسبة عالية جداً من المشاركة، ومن مستوى التمثيل.

ورقم 100 مليار دولار، الذي قبلت به الدول الغربية يدلل على أنها تجد صعوبات كبرى في تمويل اقتصادات دول تسببت هي في دمارها، وربما هي ترفض من حيث ذلك في سياق التنصل الدائم من مسؤوليتها التاريخية، ولكنها في المقابل لا تجد أي غضاضة في تمويل مجهودات الحرب والدمار.

وتفيد الأرقام التي لا تقبل التشكيك أن الغرب «الديمقراطي» وفر إلى حد الآن تمويلات مباشرة وغير مباشرة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا 85 مليار دولار، منذ فبراير 2022 وحتى شهر أغسطس الماضي، وقد تفوق بحسب التقديرات الـ90 مليار دولار مع نهاية شهر نوفمبر 2022، وعلى سبيل المقارنة والمثال، تعاني تونس منذ أزيد من سنتين الأمرين من أجل على الحصول على قرض بـ1.9 مليار دولار لمجابهة صعوبات اقتصادية، ولا وجود لدلائل جدية على تلبية طلبها بالكامل.

إن السخاء الغربي في تمويل الحروب والدمار وتأجيج الصراعات في مختلف مناطق العالم مقابل الشح اللافت في تمويل عمليات السلام والبناء والإنقاذ يطرح أكثر من سؤال حول مدى مبدئية إيمان هذا الغرب بجدوى العيش بسلام وأمن، والذي من شروطه الأساسية تحقق الحد الأدنى المشترك من النمو الاقتصادي، ومن التوازن بين مختلف مناطق العالم، وهو أمر مستحيل التحقيق في غياب قيمة التضامن بين الأمم والشعوب، التي تمثل إلى جانب الحرية والديمقراطية القيمة المثلى، التي تعلو على جميع القيم الأخرى، إن ثقافة الحرب يجب أن تزول لأنه سيكون الدمار والخراب الإنساني دون ذلك.

 

 

Email