المجتمعات الرمادية!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحكى أن ضابطاً سأل قناصاً في الجبهة عن كفاءة قناص العدو، فأجابه: «إن قناص العدو فاشل يا سيدي، فهو يرمي علي يومياً، وبشكل لا ينقطع، ويخطئ دوماً»، حينها سأله الضابط مستغرباً: «إذاً لماذا لم تقتله وتتخلص منه؟»، فأجابه القناص الحاذق: «أخاف أن أقتله فيستبدلونه بقناص متمكن فيقتلنا!»

إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي مجتمع هو أن يصفق لك مجتمع مناوئ، وأن يحاول الأول باستماتة إرضاء الآخر بمحاولة التشبه به، والاحتفاء بسلوكياته، واستيراد أفكاره، السيئ منها قبل الجيد كلما رأى ابتسامة منه، متناسياً التضاد البين بين منظومتك العقائدية والأخلاقية والسلوكية، وبين ما لديه، لذا تأكد أن سكوته الراضي وتصفيقه إن حدث، ليس لأنك تفعل شيئاً جيداً، ولكن لأنك تكفيه مؤونة إضعافك، وتفتيتك تمهيداً لابتلاعك إن لم تكفِه هذه التبعية المختارة!

إن الـمشاهد التي مرت علينا هذه الأيام لتسابق البعض في الدول العربية للاحتفال بعيد الشياطين أو الهالوين ليؤكد أننا أصبحنا مجتمعات رمادية لا لون واضحاً لها، وأننا أمام جيل تائه، جيل لا يحمل هماً لأجل أمة ولا قضية يقف خلفها مدافعاً، وليس بإمكانه أن يحمل مسؤولية وطن، لأنه لا يفقه ما المقصود بالوطن وما مرتكزاته، وما هي منظومته القيمية.

وما الذي يصح وما لا يصح، فهو مائع في تعامله مع مخرجات العالم الغربي دون تحفظ ودون خطوط حمراء، فهذه الفئة أشبه بالمزيج الهلامي الذي لديه تسارع للتشكل حسب القالب، الذي يوضع فيه، تشكل لا يعدو أن يكون انعدام هوية وضياع شخصية، وهو الضياع والعدم الذي يحاول ستره بادعاءات مختلفة!

إنه من المؤسف أن تجد حمية الناس تثور لأندية كرة، وقد تفتح البلاغات من أجلها، ويشنع على من مس «قداستها»، بينما لا تجد عيناً تطرف أو صوتاً يرتفع بالرفض إلا فيما ندر عندما تمس قيم المجتمع المحافظ، ويتم تقديم سلوكيات مجتمعات غريبة، ليحتفى بها داخل هذا المجتمع بدعوى الحداثة والتقدم، ذاك الآخر الذي لم نحتفِ بمخترعاته ولم نتشبه به في علومه، ولم نستضف أساتذته وعلماءه، لمساعدة مجتمعاتنا، لتلحق بدول النخبة «حضارياً»، ولكن أتينا بكل مساوئه من عادات مستهجنة وسلوكيات مقززة لنطبل حولها!

السؤال الذي يتبادر للذهن، والذي يحاول داعمو اللهث خلف قذر الغرب تغطيته هو: لماذا لا نجد أحداً- أي أحد- في شرق الدنيا وغربها يحيي مناسبة إسلامية، لماذا يحتفي «ربعنا» بالكريسماس وليلة رأس السنة والفالنتين، والآن هالوين، ولكن لم نسمع بدولة أجنبية تحتفي بمناسباتنا.

وفي الحقيقة فنحن نرى العكس عندما نرى دعمهم لإهانة مقدساتنا، والتعدي على مقام نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، بدعوى حرية التعبير عن الرأي، وهي ذات الحرية التي «تاكل تبن» وتطأطئ رأسها عندما يتعلق الأمر بالمساس بـ«قومية» معينة، فأي هوانٍ وصل له البعض!

نحن كمجتمعات عربية مسلمة نواجه أزمة هوية قاتلة، فلم نعد نعرف من نحن، ولا ما يمثل قيمة لدينا، ولا ما يصنع تميزنا عن سوانا من الشعوب، ويكفي أن تستمع لكلمة من تشاء وفي أي مناسبة والكل- إلا فيما ندر- يتهرب من البسملة في بداية كلامه أو ذكر السلام، ولن تجد إشارة من قريب أو بعيد لآية قرآنية أو حديث نبوي، أما البرامج التلفزيونية والقنوات الإخبارية وافتتاحيات المؤتمرات فحدث ولا حرج، والسؤال هو: لماذا؟ لماذا أصبحنا نشعر بالخجل من مجرد مفردات تؤكد هويتنا، بينما نرى غيرنا فخوراً بتفاصيل صغيرة تبين هويته، ولا يخجل من منح تقدير لتمثال أو حيوان مقدس لديه!

قال يعقوب عليه السلام عندما ضاقت به الدنيا: «يا أسفى على يوسف»، رغم أن لديه عشرة أبناء سواه، لكن عندما يقارب الشَّفْرُ الوتين يبحث الإنسان عمن يستحق الرهان عليه، فمكانه لا يملأه سواه ووقفته لا يستطيعها غيره، وعندما تشارف السفينة على الغرق، تبحث العيون عن جهد جماعي حقيقي يوصلها لبر الأمان، وعندما يكثر اللغط والهرج والمرج، تنتظر الأسماع أن يصلها صوت عاقل يحفظ لبقائها رمق حياة قبل أن يضيع كل شيء، ونندم بعد فوات الأوان.

* كاتب إماراتي

Email