ماذا حدث في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ رحيل المعلم ماو مؤسس الصين الشيوعية سنة 1976، تولت قيادة الصين شخصيات، كان قاسمها المشترك، الإيمان بعقيدة الحزب الشيوعي الحاكم. وإذا كان البعض قد وصف الزعيم الصيني الأسبق، دينغ هسياو بينغ، بعراب التغيير والانفتاح، ووصف الزعيم الآخر جيانغ زيمين، بقائد الاستمرارية، ومهندس النهضة الصناعية، فإن الزعيم الحالي شي جينبينغ، المتربع على عرش الدولة والحزب والجيش منذ انتخابه عام 2012، بزّ كل أسلافه، ببروزه كأقوى زعيم للبلاد دون منازع، منذ رحيل ماو.

الكثيرون لم يتوقعوا أن يصعد الرجل بهذه السرعة الصاروخية إلى هرم السلطة، وأن يعزز قبضته عليها، وينجح في تغيير العرف المتعلق بفترة البقاء في السلطة، لتصبح مفتوحة، بدلاً من فترتين، كما حددها هسياو بينغ، في الدستور، خشية تكرر ظاهرة ماو.

لكن، في المقابل، كان هناك من قرأ جينبينغ مبكراً، ورأى فيه شخصية ذكية ذات طموحات شخصية ووطنية غير محدودة. ولئن تمثلت طموحاته الوطنية بتحويل الصين إلى قوة عالمية مهابة بين الأمم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وهو ما تجلى في مشروعه الأهم (الحزام والطريق)، ناهيك عن قيادته لمبا

درات إقليمية ودولية مختلفة، وضخه لاستثمارات بليونية في أفريقيا وآسيا، فإن طموحاته الشخصية تمثلت في البقاء سيداً للصين دون منازع، وهو ما تجلى في حرصه على التجديد لنفسه، من خلال مؤتمرات الحزب الحاكم كل خمس سنوات، كي يهندس طموحاته الوطنية، وفق أفكاره الخاصة، تلك الأفكار التي نجح عام 2018، في كتابتها كمواد في الدستور، تحت عنوان «أفكار شي جينبينغ حول اشتراكية ذات سمات صينية لعهد جديد»، علماً بأنه لم يحظَ بهذا الشرف من قبل سوى ماو. وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، الذي اختتم أعماله مؤخراً، صدقت رؤية من توقع أن جينبينغ جاء ليبقى طويلاً، وأنه ليس كبقية أسلافه.

لم يكن نجاحه في الوصول إلى مرتبة توازي مرتبة ماو، الذي كان سبباً في اضطهاد والده خلال الثورة الثقافية في الستينيات، مصادفة، وإنما حصيلة عمل دؤوب، استثمر فيه ذكاءه وإجادته لفنون الصبر، من أجل خلق شرعية لنفسه، يستطيع بها مواجهة منافسيه السياسيين من جهة، والسيطرة من جهة أخرى على القلعة العتيدة الحامية للحزب والدولة والنظام، ممثلة بمؤسسة الجيش الأحمر.

وبعبارة أخرى، نجح جينبينغ في تحقيق انتعاش اقتصادي كبير للأمة الصينية، وتصدى بقوة لمحاولات الجماعات الانفصالية في «شينجيانغ» وهونغ كونغ، المس بوحدة البلاد، ووسع نفوذ الصين ومكانتها بين الأمم بمبادرة الحزام والطريق، متخذاً من دول آسيا الوسطى منصة لإطلاقها، دون خشية من حساسية موسكو، وضرب بيد من حديد على أوجه الفساد ورموزه، في المواقع المختلفة، من خلال حملة «النمور والذباب»، فحصد الشرعية اللازمة للبقاء طويلاً على رأس هرم السلطة، خصوصاً بعد أن مهد لذلك بإقدامه سنة 2015، على إعادة هيكلة الجيش، عبر إلغاء أقسامه الرئيسة الأربعة، واستبدالها بـ 15 وكالة صغيرة خاضعة للجنة العسكرية المركزية للحزب الشيوعي، التي يرأسها بنفسه.

في السنوات الأخيرة، صارت مؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني، تحظى بمتابعة دقيقة من وسائل الإعلام العالمية، لا تقل عن متابعتها واهتمامها بالانتخابات الرئاسية الأمريكية مثلاً. والسبب، بطبيعة الحال، هو الصعود الاقتصادي المذهل للصين، وتنامي قوتها ونفوذها عالمياً.

فهذه المؤتمرات عادة ما تحدد توجهات الصين المقبلة، وتكشف عن سياسات قادتها المستقبلية حيال القضايا الداخلية والخارجية. وفي مؤتمر هذا العام، انتظر العالم سماع تقرير من جينبينغ، يختلف عما قاله في المؤتمرين السابقين، خصوصاً لجهة ما استجد من قضايا واستراتيجيات الصين حيالها، لا سيما قضايا مثل: تصفير جائحة «كورونا» المنهكة للاقتصاد، ومسألتي تايوان وهونغ كونغ، والتحالف الصيني الروسي، والصراع على النفوذ في آسيا الوسطى، والمخططات الأمريكية والغربية لتحجيم الصين إقليمياً وعالمياً، والحرب التجارية بين واشنطن وبكين.

لقد حفل بيان الأمين العام للحزب في مؤتمر هذا العام، بالعبارات المعتادة حول السلام العالمي «والتنمية المشتركة»، و«رفض التدخل في الشؤون الداخلية»، إلا أنه تضمن أيضاً تأكيدات وتطلعات جديدة، يبدو أنها فرضت نفسها من وحي الصراعات والاستقطابات العالمية الجديدة، ومن وحي الانتقادات الموجهة إلى بكين.

من ذلك، تأكيد جينبينغ على أن بلاده ستلعب دوراً أكثر حزماً في تشكيل النظام الدولي، وفق رؤيتها، وليس وفق قواعد الغرب، وأنها لن تسعى إلى الهيمنة أو التوسع، لكنها ستحمي كياناتها الموجودة خارج حدودها، وأن تداعيات «كورونا» لن تجعلها تنكفئ على نفسها اقتصادياً وتجارياً، وأن قضية تايوان تخص الصينيين وحدهم، دون غيرهم، وأن بكين تدعم إعادة التوحيد السلمي، لكن دون التعهد بالتخلي عن استخدام القوة.

إلى ذلك، لوحظ تركيزه على موضوع الأمن، بدليل ورود مفردتي «الأمن» و«الأمان»، أكثر من 70 مرة في بيانه السياسي/‏ الحزبي، خصوصاً في معرض حديثه عن مواصلة الصين تعزيز قدراتها العسكرية، والتنسيق بين الأمنين الخارجي والداخلي للبلاد.

 

 

Email