شخصيات تحت المجهر

منى الدهام.. «غناوي الشوق» و«بقايا الليل»

ت + ت - الحجم الطبيعي

أجبرت المتلقي، بصوتها الرشيق المميز ونبراتها المهذبة ومخارج حروفها الصحيحة وثقتها بنفسها، أن يحترمها ويجلس منصتاً لها كما يفعل التلميذ مع معلمه في محراب العلم، بل فرضت عليه أن يسهر ليتابع برامجها بشغف في أوقات بثها أواخر الليل.

تلك هي أيقونة الإعلام الكويتي المسموع والمرئي في الزمن الجميل المذيعة القديرة «منى طالب الدهام السالم» التي وهبت نفسها، منذ سنوات حياتها المبكرة، لميكروفون الإذاعة، ومن ثم لكاميرا التلفاز، وعاصرت البدايات الصعبة للجهازين، وتغلبت بالإرادة والتصميم على كل ما وقف في طريقها من عقبات اجتماعية ووظيفية إلى أن غدت اسماً من الأسماء المحفورة في ذاكرة الأجيال وفي تاريخ الراديو والتلفزيون الكويتيين، جنباً إلى جنب مع أسماء الإعلاميات الأوائل اللواتي خضن تجربة العمل الإذاعي في عام 1961م

ولدت بالبصرة في جنوب العراق سنة 1949 لأب كويتي ميسور الحال كان يعمل في التجارة ما بين العراق والكويت، لكنه تعرض للقتل عام 1948 فتوفي عنها وهي في الشهر السادس من عمرها. وأخبرتنا في حوار صحافي مع إحدى المجلات بأن والدها رحل دون أن يترك لأسرته مورداً تعيش عليه، فقامت والدتها بعبء رعايتها وتربيتها مع خالها، بل عاشت الأم حياة زهد وتقشف كي توفر لها حياة كريمة من خلال خياطة الملابس للجيران والمعارف.. وذكرت منى أنها كانت شقية في طفولتها، وتلعب مع الصبيان، فكانت أمها تزجرها وتعنفها وتربطها في السرير من قدميها، الأمر الذي زرع في داخلها رغبة مضاعفة في التحرر والانطلاق، بما في ذلك التحرر من العباءة التي ارتدتها لمدة 11 سنة ثم خلعتها إلى الأبد.

كان أول عهدها بالتعليم هو الالتحاق في سن السادسة بمدرسة في الزبير، ظلت بها حتى بداية المرحلة الثانوية. وتقول منى عن تلك المرحلة من حياتها ما مفاده أنها لا تزال مشتاقة إلى الأيام التي عاشتها في الزبير وسط ناسها البسطاء الطيبين، مضيفة إنها اضطرت في مطلع الستينات إلى ترك الزبير والعراق كله مع والدتها للالتحاق بأهلها في الكويت من جهة أبيها، لأن بقاءها ككويتية في العراق آنذاك كان صعباً في أعقاب افتعال الزعيم عبد الكريم قاسم لأزمة المطالبة بالسيادة على الكويت عام 1961.

وعليه حلت منى ــ برفقة والدتها ــ في الكويت سنة 1961، حالمة بظروف معيشية أفضل، وتواقة إلى حريات اجتماعية أوسع، وسكنت بمنطقة المرقاب. وفي الكويت حاولت أن تواصل دراستها الثانوية، لكنها أهملت الموضوع بسبب إصابتها بأمراض السكري والضغط، ناهيك عن حصولها على فرصة الالتحاق بالإذاعة الكويتية للعمل كمذيعة بعد عام من وصولها وهي في سن الخامسة عشرة، وهكذا تحملت مسؤولية الإنفاق على نفسها وأمها في هذه السن المبكرة، دون سند يقف إلى جانبها، فحتى خالها الذي كان معيناً ومرشداً لها على مدى سنوات كان بعيداً عنها في العراق.

بدأت العمل وسط أجهزة لم تألفها وفي أجواء غريبة لم تعتدها، وفي وقت لم تكن في إذاعة الكويت من المذيعات سوى «نورية السداني» و«شيخة الزاحم». لكنها كانت، على الأقل، مسرورة لعدم وجود من يعترض الطريق الذي اختارته لمستقبلها، فأمها تدعمها في خياراتها.. وقفت أمها في صفها، وحاولت أن تخفف عليها اعتراضات أقاربها عبر اصطحابها من وإلى مكان العمل بنفسها.. كان أول ما قدمت أمام الميكروفون أغنية «مظلومة يا ناس» للمطربة سعاد محمد، نطقت عنوانها وكأنها تتحدث عن نفسها وتواسيها وتصبرها.

ورويداً رويداً ثبتت قدميها في دار الإذاعة وأثبت كفاءتها في العمل وراء الميكروفون، وهو ما شجع مدراءها على السماح لها بما هو أكثر من فقرات الربط، فقدمت برنامج «صور شعبية».. وحينما افتتحت الإذاعة الشعبية، كانت منى من أوائل العاملين فيها.. وكان من نصيبها تقديم برامج عدة مثل: برنامج «نصف ساعة مع فنان».

بعد مدة من عملها في الإذاعة الشعبية، انتقلت إلى البرنامج العام فواصلت إظهار مواهبها الإعلامية من خلال عدد آخر من البرامج مثل: برنامج «ساعة مع فنان».

على أن ما ساهم في انتشار اسمها خارج حدود الكويت ومنطقة الخليج وخلدها في قلوب المستمعين هو برنامج «غناوي الشوق» .. ثم برنامج «بقايا الليل»..

في عام 1965 طلب منها الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح أن تعمل في الديوان الأميري بوظيفة «أمينة ديوان» مهمتها استقبال الضيوف من زوار الكويت، وذلك بعد ما بلغ أسماعه عن اجتهادها وحسن تدبيرها وقوة شخصيتها. ورغم ما حظيت به في هذه الوظيفة من رعاية أبوية وعطف كريم من لدن الأمير شخصياً، إلا أنها لم تستمر أكثر من سنة، عادت بعدها إلى الإذاعة. والجدير بالذكر أن منى طالب هي أول إعلامية يكرمها الشيخ عبدالله السالم، وهي أول من كتبت قصيدة رثاء فيه بعد وفاته، رحمه الله، في 24 نوفمبر 1965.

شعرت منى في وقت من الأوقات أن ما يقف أمام صعودها في السلم الوظيفي بوزارة الإعلام هو عدم إكمالها دراستها.. ولهذا قررت أن تكمل دراستها الثانوية كي تلتحق بالجامعة. وبالفعل درست الثانوية في الكويت وأكملتها في القاهرة، ثم التحقت بكلية الآداب في جامعة بيروت العربية لدراسة التاريخ، ونجحت في الحصول منها على درجة الليسانس سنة 1974. لم تكتف منى بذلك فقط، وإنما اتبعته أيضاً بنيل دبلوم في الإعلام من مصر.

وعلى إثر ذلك، تم إرسالها مع الفنانة سعاد عبدالله سنة 1975 إلى أبوظبي، للمساهمة في إعداد البرامج المتنوعة لإذاعة دولة الإمارات من أبوظبي.

تجلى حبها وإخلاصها لوطنها خلال فترة الاحتلال العراقي للكويت، حيث تصادف وصولها إلى لندن قبل الغزو بثلاثة أيام فقامت بنشاط إعلامي واجتماعي مزدوج هناك، ولاسيما في أوساط الأسر البريطانية التي كان أبناؤها يحاربون في عملية عاصفة الصحراء، وهو ما جعل رئيسة الحكومة البريطانية وقتذاك مارغريت تاتشر تسأل عنها وتقابلها لتشكرها. وبعد التحرير قامت منى بتقديم برنامج تلفزيوني بعنوان «قلائد على صدر الكويت» خصصته للقاء نساء الكويت اللواتي عشن معاناة الاحتلال في الداخل بصبر وشجاعة.

وتكن منى طالب تقديراً خاصاً لوزير الإعلام الكويتي الأسبق الشيخ جابر العلي السالم الصباح (1928 ــ 1994)، وتعتبره صاحب فطنة وذكاء لرعايته الأدب والثقافة والفنون بمختلف أشكالها.. ولعل أحد آيات دعم الشيخ جابر العلي للإعلام المسموع والمرئي ــ كما أخبرتنا منى ــ تجسد في تشجيع ابنته الشيخة فاطمة جابر العلي الصباح على العمل كمذيعة ومقدمة في تلفزيون الكويت في الستينات كي يشجع أهل الكويت على عدم معارضة اشتغال بناتهم في هذا الجهاز الإعلامي الجديد آنذاك.

وتشاء الأقدار في عام 2008 أن تتعرض منى لحادثة سقوط المصعد الذي كانت تستقله في وزارة الإعلام، حيث بقيت محبوسة فيه دون إسعافات لمدة ساعة ونصف الساعة قبل فتحه.. وعلى إثر هذه الحادثة سافرت إلى ألمانيا للعلاج، لكنها قطعت علاجها وعادت بعد شهر دون أن تتعافى، وذلك كي لا تتخلف عن التزاماتها تجاه مستمعيها الكثر، في دليل آخر على احترامها لعملها وحرصها على تاريخها الإعلامي المضيء.

أخيراً، فإن مما يجدر بنا ذكره ونحن نختتم سيرة المبدعة منى طالب هو أنها ليست مذيعة فحسب وإنما أيضاً شاعرة وكاتبة صحافية. ففي مجال الشعر كتبت الشعر الشعبي والموال وكلمات أغان أداها فنانون مثل أغنية «ليش الحبيب اللي هويته يا ناس.. خاصمني وهجرني وما عاد يراضيني» التي أدتها المطربة فايزة أحمد، وألفت كتاب «موال» المقرر في جامعة الكويت كمرجع للشعر الشعبي. أما الصحافة فخاضت غمارها منذ عام 1975 حينما كتبت أولى مقالاتها بمجلة «اليقظة» الكويتية، وكانت عن «الرومانسية في الشعر السعودي»، لتنقل بعد ذلك إلى الكتابة في صحف كويتية مختلفة.

Email