«أيام قرطاج».. عندما تصلح السينما ما تُفسده السّياسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

افتتحت أول أمس السبت 29 أكتوبر 2022 الدورة الـ 33 لأيام قرطاج السينمائية، وتستمرّ إلى غاية 5 نوفمبر، وتنعقد هذه الدورة في سياق إقليمي حسّاس ومتوتّر لجهة ما تعيشه العلاقات البينية بين بعض الدول العربية من أزمات - نراها عابرة - وخصوصاً بعد موجة ما يسمّى بـ«الربيع العربي».

وقد تميّزت هذه الدورة بمشاركة 72 بلداً بينها عدد كبير من الدول العربية والأفريقية، ولعلّ أهمّ ما ميّز الدورة الـ 33 لأيام قرطاج السينمائية هو أوّلاً، أنّها اختارت في هذا السياق الخاصّ الاحتفاء بالسينما المغربية من خلال شريط «فاطمة.. السلطانة التي لا تُنسى»، وهذا الفيلم الذي أخرجه محمّد عبد الرحمن تازي يُعدّ تكريماً وتحية وفاء وعرفان للكاتبة وعالمة الاجتماع المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي التي عُرفت بجرأتها الفكرية ونضالها السياسي والتزامها الاجتماعي، وبشكل بوّأها مكانة متفرّدة في محيطها المغربي، تاركة وراءها 15 كتاباً أسالت الكثير من الحبر نظراً لجرأة المحتوى.

ويصنّف الملاحظون فاطمة المرنيسي بـ«شهرزاد الثائرة» لنضالها في سبيل المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة دون أن تكون في يوم من الأيام محسوبة على بعض الحركات النسوية التي كثيراً ما تنزلق في خطابها وممارساتها إلى التضادّ مع الرجل وهو أمر كانت المرنيسي دوماً ترفضه.

وأمّا ثاني حدث في الدورة 33 لأيام قرطاج السينمائية فهو تخصص مساحات كبيرة للاحتفاء بالسينما السعودية التي بدأت تشقّ طريق وجودها بثبات بما يدلّل على عمق التحوّلات الإيجابية التي تعيشها المملكة العربية السعودية.

ولعلّه من المفيد التذكير بأنّ أيّام قرطاج السينمائية هي من أعرق الدورات في إفريقيا والعالم العربي، وهي كانت من العناوين البارزة لخصائص دولة الاستقلال التي أرسى دعائمها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وهي إلى جانب كونها تمثّل حدثاً شعبياً ومواطنياً، هي كذلك فضاء شاسع لممارسة حرية الرأي والتعبير والإبداع، وهي لذلك كانت من الوسائل المهمّة التي أسّست لمجتمع تونسي غير منغلق ومفتوح على تجارب الآخرين ورافض لكلّ أشكال التطرّف الفكري والسياسي، الأمر الذي حاولت حركات «الإسلام السياسي» وعلى رأسها حركة «النهضة الإخوانية» ضربه منذ بدايات حراك ما سمّي بـ«الربيع العربي»، وذلك في سياق سعيها المحموم لنسف نظام المناعة المجتمعي ضدّ التطرّف والإرهاب ومنه حرية الإبداع والابتكار الفنّي، وكذلك بحُكْمِ أنّ العقدة الأبدية للإسلام السياسي هي أنّه بلا تصوّر ثقافي وهو معادٍ في العمق للإبداع.

وتقديرنا للأمر أنّ أيّام قرطاج السينمائية في دورتها الحالية مثّلت امتداداً لقيم ومُثل دولة الاستقلال من حيث الإيمان بحرية الرأي والتعبير والإبداع الفنّي وغيره مع فارق أساسي هو أنّها كانت تُمارس سابقاً كشكل من أشكال التعويض عن غياب هذه الحرية في الفضاء العمومي والسياسي الذي كان محكوماً بتضييقات قانونية وسياسية شتّى، في حين أنّها تمارس الآن في مناخ سياسي وقانوني يسمح بها مطلقاً وبلا قيود رغم أنّ «النهضة الإخوانية» حاولت جاهدة وبلا انقطاع الحدّ من هذه الحريّة، ولكنّها فشلت في كلّ محاولاتها.

هذه الدورة كانت أيضاً امتداداً وتواصلاً للسياسات والمواقف الثابتة لدولة الاستقلال.

وإنّ في اختيارها لفيلم مغربي في عرضها الافتتاحي إبرازاً لمكانة المغرب في المخيال الثقافي التونسي، وتصويباً لخطأ السياسات التي حادت عن ثوابت دبلوماسية دولة الاستقلال التي أثبتت جدواها وفعاليتها.

وإنّ في اختيار فيلم «فاطمة.. السلطانة التي لا تُنسى» تحديداً، مصالحة فعلية مع تبنّي المجتمع التونسي بخاصّته وعامّته لقضايا الحريّة والتحرّر، وهو الأمر الذي تأكّد باختيار السينما السعودية لتكريمها.

إنّ التونسي جُبِلَ على رفض التطرّف في السلوك والمواقف، وإنّ الفنّ والإبداع التونسيين قاما ويقومان دوماً بدورهما الطبيعي في التنبيه وفي تعديل السياسات وإصلاح أخطائها، وهو ما يبدو أنّه تأكّد في الدورة 33 لأيام قرطاج السينمائية.

 

Email