غابات وحدائق

ت + ت - الحجم الطبيعي

«أوروبا حديقة. لقد بنينا حديقة... لكن بقية العالم ليس حديقة تماماً، بقية العالم.. أغلب بقية العالم هو غابة. الغابة يمكن أن تغزو الحديقة، وعلى البستانيين أن يتولوا أمرها...».

بهذا التصريح الذي يعيدنا قروناً إلى الوراء خرج علينا جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي. كبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، أثار بخطابه هذا حالة غضب كبرى في أنحاء كثيرة من العالم، وقال منتقدو خطابه إنه كان مليئاً بالعنصرية والإمبريالية، ويعكس وجهات نظر عفا عليها الزمن بشأن التفوق الأوروبي.

عبّر عن هذا فيليب مارليير، الخبير في السياسة الفرنسية والأوروبية، قائلاً إن هذا التشبيه مسيء بشكل رهيب، له نغمات استعمارية وعنصرية قوية. بينما قال ديونيس سينوزا، محلل المخاطر السياسية والباحث في مركز دراسات أوروبا الشرقية، إن على بوريل الاعتذار باسم الاتحاد الأوروبي عن تصريحاته هذه.

دولة الإمارات العربية المتحدة كانت من أوائل الدول التي أعربت عن استنكارها للتصريحات التي أدلى بها بوريل، مشيرة إلى أن أي تصريحات من هذا النوع غير مناسبة وتتسم بالعنصرية. وقالت وزارة الخارجية والتعاون الدولي، في بيان لها، إنها ترفض تصريحات بوريل، واصفة إياها بالعنصرية، ومشيرة إلى أنها تساهم في تفاقم التعصب والتمييز على المستوى العالمي.

الوزارة قالت إنها استدعت القائم بأعمال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي لدى الدولة، حيث طُلب من مكتب الممثل الأعلى تقديم تفسير مكتوب بشأن تصريحات بوريل المؤذية والعنصرية. وأضافت أن تعليقات بوريل تعتبر مخيبة للآمال، وتأتي في وقت تدرك فيه جميع الأطراف أهمية احترام الأديان والثقافات والمجموعات العرقية الأخرى، فضلاً عن قيم مثل التعددية والتعايش والتسامح.

واضح أن جوزيب بوريل ما زال يعيش بفكر عصور ما قبل اختراع العجلة، فهذا الخطاب العنصري عفا عليه الزمن، ولم يعد صالحاً للاستخدام في عصرنا هذا، خاصة بعد أن تبدلت المواقع، وتغيرت الحقائق على الأرض، واختلف مفهوم الغابة والحديقة، وارتدى كثير من أهل «الحدائق» جلوداً تبدو أكثر نعومة من جلود الثعابين، لكنهم أشد سُميّةً منها، وأصبحت العنصرية هي السمة الغالبة على أولئك الذين كانوا يلصقون هذه الصفة بالشعوب الأخرى، في الوقت الذي أصبحت فيه هذه الشعوب أكثر تسامحاً وتقبلاً للآخر منهم.

إذا كان ثمة مكان يمكن أن يُضرَب مثلاً لمفهوم «الحديقة» الذي تحدث عنه جوزيب بوريل فهو دولة الإمارات العربية المتحدة؛ هذا البلد الذي يجمع على أرضه أكثر من 200 جنسية مختلفة الأعراق والديانات والثقافات والألوان والتوجهات والأمزجة والهوايات والاهتمامات، دون حساسيات أو مخاوف عنصرية تحول دون تمازجها وانصهارها في بوتقة واحدة، يتشكل منها مجتمع يسوده الوئام والتعايش والتسامح، متخلصاً من عقدة «الغابة والحديقة» التي ما زالت تعشش في بعض الرؤوس، وتدفع أصحابها إلى إبداء مخاوفهم من أن تغزو «حديقتهم» المتخيَّلة وحوش «الغابة» المزعومة، ومع هذا لم تقل دولة الإمارات إنها «حديقة» وإن بقية العالم «غابة».

نتمنى من صميم قلوبنا أن تكون أوروبا «حديقة» فعلاً كي نطمئن على جزء مهم من الكرة الأرضية، كما نتمنى أن تكون كل بقاع العالم «حدائق» آمنة كي تنعم البشرية بالسلام والرخاء الذي نريده لها، فليس من مصلحة أحد أن تكون هناك «غابة» واحدة على سطح الكرة الأرضية تهدد «الحدائق» الآمنة، ولكن كيف يمكن أن تتهيأ الظروف المناسبة لتحقيق ذلك في ظل الصراعات المنتشرة في أنحاء كثيرة من الكرة الأرضية، تلك التي تشعلها وتغذيها وتمدها بالحياة دول يعتقد بوريل أنها «حدائق» مهددة من سكان «الغابات» المتوحشين الأشرار الذين يتربصون بها؟

واضح أن بوريل بحاجة إلى مراجعة ملفات بعض دول «الحديقة» التي يخشى عليها من وحوش «الغابة» قبل أن يلقي باللائمة على سكان «الغابات» التي يخشى منهم على «حديقته». ولهذا نقترح عليه أن يستمع إلى ما قاله السفير البريطاني السابق، كريغ ميراي، والذي سبق أن ترأس لجنة مراقبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، ليعرف ماذا فعل ملوك «الغابات» العصريون بسكان «الحدائق» الأبرياء، وكيف لفقوا التهم والأكاذيب من أجل حماية مصالحهم الشخصية، وكيف أداروا اللعبة بأيدي عملائهم في البلدان التي غزوها، وكيف قدموا المكافآت المجزية لهؤلاء العملاء الذين خانوا أوطانهم، ننصحه بالاستماع إلى ما قاله السفير ميراي قبل أن يخرج على العالم بمثل هذه التصريحات العنصرية، ثم يعود ليعتذر بعد أن يكون السهم قد انطلق فقتل من قتل وجرح من جرح.

Email