الولايات المتحدة تَمُرُّ بِمَخَاضٍ عسير. إمَّا أنْ تسير في درب التَّجديد وإعادة الولادة، أو إلى مزيد من التَّردي.

كان رِهان الأمريكيين دائماً على مؤسساتهم السياسية لإصلاح الخلل المُستجِد في الواقع العام. فالانتخابات على سبيل المثال وسيلة لتصويب المسار كل عامين أو أربعة أعوام. والمؤسسات السياسية تَلعَب دوراً رقابياً على السلطات التنفيذية وتعبر عن طموحات الأغلبية دون أن تخلَّ بحقوق الأقلية.

ولكن المؤسسات أصيبت بعطب. يتمثل هذا التسوس، كما يقول فرانسيس فوكوياما ـ صاحب نظرية نهاية التاريخ ـ في درجة عالية من الاستقطاب السياسي الحزبي، والمال السياسي لتمويل الحملات الانتخابية وأصحاب المصالح، إضافة إلى الضبط والتوازن بين السلطات أدَّت إلى ظاهرة «حكم النَّقض».

بمعنى آخر أصبح من اليسير عرقلة أعمال الحكومة من دفع للقيام بأعمال تُفِيدُ المجتمع. ومما يدلِّل على هذه الظاهرة تكرر أزمات الميزانية، وركود البيروقراطية، وانعدام الابتكار في السياسات العامة.

عندما يرفض رئيس، في سابقة تاريخية، أنْ يُقِرَّ بالهزيمة، وإمعاناً، يُحَرِّض أنصاره على الهجوم على مبنى الكونغرس لِمَنعِ عملية التصديق على نتائج الانتخابات، فإنَّ فعالية المؤسسات السياسية تكون موضع شك، لا ريب. ومما يؤكد على العصبية الحزبية التي تجتاح المجتمع السياسي الأمريكي أنَّ إدانة الرئيس لهذا الفعل جاءت تقريباً على حسب الانتماء الحزبي. الديمقراطيون صَوَّتوا ضد الرئيس، والجمهوريون صَوَّتوا ضد الإدانة.

الحادثة التي أشرنا إليها ليست عرضية، والمسببات تاريخية ومتعلقة بتطور المؤسسات. متانة المؤسسات تقاس بدرجة تماسكها ودرجة استقلاليتها ودرجة تكيفها مع المستجدات. المؤسسات الأمريكية عريقة ومتطورة وتجاوزت اختبارات صعبة مثل الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر، وحركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين.

ولكن ككل الأشياء، تُصَابُ المؤسسات بالضمور وتتعرض للفساد وينخر السوس في أساسها كما يقول فوكوياما. «المؤسسات توجد لحاجات في ظروف معينة»، يقول فوكوياما، «ولكن الظروف تتغير والمؤسسات تفشل في التكيف» مع التَّغَيُّر. المؤسسات ميزتها الثبات.

ولكن انعدام المرونة تجعل منها جامدة لا تستطيع أنْ تَحِلَّ المعضلات اليومية للحكم. وقد عانى لبنان من هذه الظاهرة بالذات حين فشلت المؤسسات أنْ تتكيَّفَ مع الواقع الديمغرافي الجديد، ودخلت في أتون حرب أهلية لا هَوَادة فيها.

هناك قضايا جَمَّة تُحَاوِل مؤسسات الحكم في أمريكا التعاطي معها أو إصلاحها، ولكنَّ المصالح الخاصة، والتي هي نتاج النظام السياسي، تَقِفُ حائلاً نحو تحقيقها. فعلى سبيل المثال تعاني الولايات المتحدة من انفلات السلاح في المجتمع. يستيقظ الأمريكيون بين الفَيْنَةِ والأخرى على مذابح تُرتَكَب ضد أبرياء بسبب تَوَفُّر امتلاك السلاح.

ولكن لوبي السلاح المعروف بالاتحاد الوطني الأمريكي للأسلحة، يَقِفُ بالمرصاد ضد أي إصلاح رغم الحاجة الماسة لتشريع يُقَنِّن اقتناء الأسلحة الفردية، رغم تزايد الجريمة المسلحة، والانتحار، القتل الجماعي حتى غدا ظاهرة عامة.

ولك في الحادثة الأخيرة التي ارتكبت في رالي بولاية نورث كارولاينا الأسبوع الماضي خير دليل على تزايد العنف المسلح. فقد قام فتى عمره 15 بإطلاق النار على مجموعة من الناس أردى منهم خمسة قتلى. وأصاب آخرين بجروح وفر إلى منطقة أخرى على بعد ميلين ليواصل إطلاق النار. وقد وصلت أحداث العنف الجماعية في الولايات المتحدة إلى ما يربو على 500 حادثة.

وبلغ أعداد الضحايا إلى 34 ألف شخص. ورغم نداء الشخصيات العامة بما فيهم الرئيس بايدن، كفانا عنفاً، إلا أن الاستجابة ضعيفة كصدى لاهتراء المؤسسات الحكومية. هذا غيض من فيض ما تعجز المؤسسات السياسية على حَلِّه لأنَّهَا تعاني التَّسَوُّس مِنَ الدَّاخِل. وكما قال الشاعر العربي:

لقد أسمعت لو ناديت حيّاً ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نار نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد

* كاتب وأكاديمي