كارثة الفيضانات في باكستان

ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين الدول التي هبت لمساعدة باكستان في كارثة الفيضانات العنيفة، يوم 29 أغسطس من هذا العام، دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان لدورها الريادي في مثل هذه الأحوال الإنسانية، الذي لا يقتصر على بقعة بعينها دون أخرى في العالم، الأثر الكبير والمحفز للآخرين ليحذوا حذوها؛ فالجسر الجوي الذي امتد بين البلدين الإمارات- باكستان غداة الكارثة، لا يزال لم يتوقف، يحمل في كل رحلة مئات الأطنان من الغذاء والدواء ومستلزمات الإيواء، وهذه المبادرات، يعلم القاصي قبل الداني، أن جذورها تضرب عميقاً في تاريخ الدولة منذ تأسيسها.

إن ما حدث في باكستان من هول شديد غير مسبوق، وتبدو الكتابة عنه لكثيرين متأخرة نوعاً ما، إذ تفصلنا عن الكارثة مدة شهرين أو يزيد، فبصراحة أكثر نجزم أن الكتابة هنا ليست خبرية، إنما هي قصة الحدث /الكارثة وملابساته العلمية؛ فإلى الآن لم تقع عيني على مطبوعة صحفية، أو وسيلة أخرى من وسائل الإعلام، إلكترونية كانت أو ورقية، كتبت موضوعاً معمقاً (ومختلفاً) حول كارثة باكستان، التي تسببت فيها- كما نشر وقرأناه جميعاً- الفيضانات العنيفة جراء الأمطار الغزيرة، التي لا تزال معاناتها قائمة تضرب النفوس وتنشر الجوع والأمراض في ثلث مساحة البلاد البالغة 8 ملايين كيلو متر مربع، كما تسببت في نزوح 33 مليون شخص، ومقتل ما يزيد على 1200 آخرين. 

إن الموضوع (المختلف) الذي عنيته وتوخيته يمكن إجماله ببضع أسئلة محورية لم تطرح حتى الآن، وهي: كيف نفهم كارثة طبيعية بهذا الحجم كالتي ضربت باكستان؟ وما الأسباب والظروف، التي أدت إليها، مع ملاحظة أنها اقتصرت عليها دون أن تمتد، كما كان متوقعاً، إلى دول الجوار المُحاددة لها، كالهند وبنغلاديش تحديداً؟ وهل يحتمل أن تتكرر الكارثة ذاتها في باكستان مرة ثانية؟ أو أن تضرب في غيرها من الدول إذا ما تضافرت لها الأسباب والظروف عينها؟

هذا كل ما كان يتوقع الكثيرون أن يقرأونه أو يسمعونه، أثناء الكارثة، أو بعدها، وصولاً إلى مرحلة التعافي؛ فأقله لم تتوفر إجابة علمية واضحة عن مثل تلك الأسئلة البسيطة والمنطقية، وتكون مقنعة ليفيد منها الناس والدول، ويتحوطوا لها ومنها قدر المستطاع، فضلاً على استفادة مراكز الأبحاث المتخصصة في التغير المناخي والبيئي في العالم، ثم لتعي البشرية كيف أن بإمكان المناخ والبيئة، إذا ما اختل توازنها عمداً أو إهمالاً أو جهلاً، أن تسببه من ضرر بالأرض ومواردها، ومن أذى للبشر والمخلوقات الأخرى على الكوكب.

معلوم أن غزارة الأمطار الهاطلة لفترة طويلة تجعل مياه الأنهار تفيض لتتعدى ضفافها، ومعلوم كذلك أن ارتفاع نسبة الحرارة تذيب البحيرات الجليدية، فتزيد من سرعة السيول وأنواعها لتغمر كل شيء في طريقها إذا لم تجرفه. هذا معلوم للجميع بهذه النسبة أو تلك، لكن ما هو ليس معلوماً ويتحتم العلم به، هي العوامل التي إذا ما تضافرت، واجتمعت مع بعضها بعضاً، تسمح لمثل هذه الكارثة بالحدوث. والعلماء يعلمون ذلك من دون أي شك، لكننا لم نسمع تفصيلاً مقنعاً.

ثمة مجلة علمية رصينة اسمها (ساينتفيك أميركان)، ربما تكون هي الوحيدة، التي تحدثت عن الحدث/الكارثة بطريقة علمية يفيد منها أهل الاختصاص والناس جميعاً؛ فهي التي استكتبت علماء متخصصين ليدلوا بآرائهم فيما حدث وما قد يحدث في المستقبل القريب.

وجمعت أقوال الكثيرين ومرئياتهم، بينهم علماء ووزراء سابقون في باكستان نفسها، واستطلعت آراءهم وحاورتهم حوار الحريص على النتيجة النهائية من كل هذا الذي حدث، فوزير التغير المناخي السابق أمين أسلم، من إسلام آباد، لخص رأيه بالتالي: لم تكن هذه مجرد موجات حر عادية، بل كانت الأسوأ في العالم، إذ كانت بعض مناطق باكستان أشد بقاع الأرض سخونة. في إشارة إلى أن الهواء الدافئ غالباً ما يحمل المزيد من الرطوبة، مما يزيد في مستويات غير عادية لهطول الأمطار، خاصة عند هبوب الرياح الموسمية، التي عادة ما تكون بين شهري يوليو وسبتمبر في باكستان، كما أن مهندس الموارد المائية زيا هاشمي، من مركز دراسات آثار التغير العالمي، كانت المعلومة التي أدلى بها للمجلة: لقد كانت هنالك إنذارات مبكرة صدرت عن مراكز التنبؤات الإقليمية والعالمية، وتم الإبلاغ بها مسبقاً.

وتبين أن ما فعلته الحرارة هو أنها تسببت في ذوبان الأنهار الجليدية في المناطق الجبلية الشمالية لباكستان، ما أدى بدوره إلى زيادة في كمية المياه المتدفقة داخل الروافد، التي تصب في نهر السند. وهذه المعلومة صرح بها آذار حسين عالم المناخ في جامعة كومساتس في إسلام آباد، ونهر السند هو أكبر الأنهار الخمسة في باكستان، يمتد بطول البلاد من شمالها إلى جنوبها، مغذياً القرى والمدن ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية. 

ورغم ذلك، لا يعلم أحد بالتحديد مقدار الجليد الذي ذاب وتدفق من الأعالي هذا العام، هذا ما قاله زيا هاشمي المتخصص في التغير المناخي، بعد زيارته المبكرة  للمرتفعات الجبلية في شهر يوليو الماضي، فقد لاحظ مساحات من المياه الموحلة في أحد الأنهار، ما يدل على حدوث حالة سريعة من الذوبان، فضلاً على انفجار عدة بحيرات جليدية لتحطم السدود الكابحة، ما أدى إلى اندفاع المياه على نحو خطير. تزامن ذلك مع منخفض جوي شديد، تجمع ضغط جوي فوق بحر العرب، كان أحد الأسباب الرئيسية في هطول الأمطار الغزيرة على الأقاليم الساحلية في بداية شهر يونيو، أما العالم آذار حسين فقال للمجلة، بشيء من الاستغراب: إنه نادراً ما تصل منخفضات جوية واسعة النطاق إلى تلك المناطق بهذا الشكل، وشاركه هذا الرأي أندرو كينج، عالم المناخ بجامعة ملبورن الأسترالية، بأن ما حدث كان ظاهرة غير مألوفة زادها سوءاً هبوب الرياح الموسمية فحولها إلى (ظاهرة طقسية شاملة على مساحة شاسعة من الأرض لفترة طويلة جداً)، مما أدى إلى تعرض البلاد - باكستان - لنحو ثلاثة أضعاف متوسط الأمطار السنوية المعتادة، أما إقليما السند وبلوشستان الجنوبيان فقد تعرضا منفردين لأكثر من خمسة أضعاف الكمية المعتادة من الأمطار: لقد اجتاحت السيول كل مكان.. قال آذار حسين. وهكذا كانت النتيجة/المأساة: تدمير 1.2 مليون منزل، و5 آلاف كيلو متر من الطرق، و240 سداً، وتكونت بحيرة كبيرة ممتدة من السند، عرضها عشرات الكيلو مترات. النظرة متوسطة المدى التي خلصوا إليها، كانت: (ثمة أسوأ لم يأتِ بعد). لكم هنالك أسئلة حول البنية التحتية الضعيفة، وإدارة الكارثة، وتكدس سكاني في مناطق الفيضانات، 

وبعد: نسأل الله تعالى أن يحمي باكستان، ويلطف بشعبها.

Email