الموسيقار العبقري والأرملة الثرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيرة هي قصص الحب في العالم، فكل بلد لديه قصة منها يدرجها في تراثه الوطني، بعض قصص الحب تلك، تنتقل متحورة إلى تراثيات بلدان أخرى جديدة، لتعتمد تراثاً تحتفي به الأجيال وتنعم، تأخذ منه وتبني عليه. فقصة حب روميو وجوليت الإيطالية، تحورت على يدي خبير هو شكسبير، من أسطورة بابلية قديمة وقعت في العراق، بين شاب يدعى بيرم، اشتهر بحسن طلعته في البلاد، وبين ابنة الجيران، الفتاة البابلية الجميلة واسمها ثيسبي، لكن الحب لم يتوج بالزواج بسبب تقاليد العائلات، الذي نسجاه من خلال كوة في جدار بين الدارين.

وأما قصص الحب العربية فهي عديدة، لا تقف عند حب قيس لليلى، وعنترة لعبلة، وكثيِّر لعزّة، فضلاً عن امتلاك العرب لأهم بيت في شعر الغزل قاله جرير (728-653): إن العيون التي في طرفها حور/ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا. يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به/ وهن أضعف خلق الله أركانا.

إن قصص الحب أمرها بات مألوفاً في كافة المجتمعات البشرية على اختلاف ثقافتها؛ فالحب نعمة، وهو إلى جانب أنه طاقة إيجابية، له تأثير حميد على سلوك الإنسان، يولد لديه حافزاً للإقبال على الحياة، ويجعله متناغماً مع ذاته، ومنتجاً، ويعامل الناس من حوله بخلق وتهذيب.

لكن ثمة قصص حب في التاريخ البشري ليست اعتيادية، بل غريبة ويصعب التصديق أنها ممكنة الحدوث في الواقع. من تلك القصص ما حدث بين عبقريّ الموسيقى تشايكوفسكي (1893-1840)، صاحب سمفونية كسارة البندق، وبحيرة البجع، والجميلة النائمة. والأرملة الثرية ناديجدا، الميالة إلى العزلة، والمولعة بالموسيقى. فقد كان من أهم شروط هذا الحب ألا يلتقيا، ولا يرى أحدهما الآخر مطلقاً، ليظل الحب متوهجاً. ورغم هذا الشرط العجيب، استمر الحب لمدة 13 عاماً، تزيده اشتعالاً الرسائل الملتهبة التي بلغ عددها 1200 رسالة. وناديجدا تميل إلى العزلة، ومولعة بالموسيقى.

بدأت العلاقة بالمراسلة وإعجاب ناديجدا إعجاباً بالغاً بموسيقى تشايكوفسكي، إذ لمست فيها حنيناً داخلياً يعيد لروحها حيويتها. وحين علمت بالحالة المادية السيئة للموسيقار، طلبت منه أن يكتب لها بعض المقطوعات، وكانت ترسل له مبالغ مالية كبيرة لقاء ذلك. بمرور الزمن تحول الإعجاب إلى حب جارف، وكانت الخطابات بينهما تتواصل باحترام وود شديدين. تقول ناديجدا لصاحبتها: إن خطابات هذا المؤلف الموسيقي تعينني على تحمل أحزان الحياة.

واشتعل بينهما الحب، لكن ناديجدا كان لديها شرطها الغريب، وهو ألا تراه، ولا يراها، ليبقى الحب مشتعلاً بينهما؛ فكتب لها: أينبغي أن أقول لك، إنك وأنت بعيدة عني وفي غير متناول يدي، لأعز عندي من روحي، بل إنني لم أقابل قط في حياتي أحداً، أقرب إلى نفسي منك.

فردت عليه: إنني كلما ازددت حباً لموسيقاك، تضاعف خوفي من لقياك. وبدأت تدعوه ليقيم في أحد قصورها، ثم دعته ليقيم في منزلها بموسكو. فلبى دعوة ما كان ليستطيع رفضها.

ودخل تشايكوفسكي إلى قصر من الرخام والبلور واللوحات الفاخرة. وفي الحجرة المخصصة له، وجد كل شيء يحتاجه: البيانو وسجائره المفضلة، والدواء الذي يتناوله قبل نومه، وأوراق الموسيقى؛ فتأثر الموسيقار بهذه الرعاية إلى درجة البكاء.

ولكنها ناديجدا رغبت بتكريمه أكثر وهو الذي كان سبباً في إقبالها على الحياة بعد عزلة موحشة، فما لبثت أن دعته كي يمضي عدة أسابيع بالقرب منها، شريطة الالتزام بالاتفاق، فاستأجرت له فيلا تبعد 500 متر عن قصرها الذي تقيم فيه مع حاشيتها وأولادها.

ووجد تشايكوفسكي كل شيء كالعادة معداً بعناية فائقة. وفي الحال بدأت الرسائل بين المنزلين يحملها رؤساء الخدم. كتبت إليه في إحداها: إن الشعور بوجودك على مقربة مني لسعادة عظمى، لا أستطيع أن أعبر عنها بالكلمات.

وطبقاً للاتفاق، كانت تعرفه بمواعيد خروجها من القصر، حتى لا يتصادفا في الطريق، فكانت تمر كل يوم، في الـ11 صباحاً، من أمام الفيلا التي يعيش فيها، ولو تصادف أنه كان قرب النافذة، فيتذكر الوقت ليولي فاراً إلى الداخل.

ثم تقدمت ناديجدا خطوة أخيرة إلى الأمام في العلاقة، فدعته في الصيف التالي للإقامة في قصرها الذي تعيش فيه، على أن يعيش هو في مسكن هادئ في نهاية الحديقة، وكالعادة بدأت الرسائل بين الاثنين، فكتبت له: يا لسعادتي أن أشعر بأنك عندي، إنه ليس الحب، إنه أكثر.

وفي غمرة حماسه وسعادته، راح تشايكوفسكي يكتب الأوبرا الجديدة «عذراء أوزليان»، وكان كلما أرسل لها ما يكتبه، تستقبله كما لو أنه آت من السماء. ورغم أنهما كانا يعيشان في قصر واحد إلا أنهما اتفقا على مواعيد خروجهما حتى يتجنبا اللقاء، طبقاً لاتفاقهما المبرم.

ولكن رغم التشدد، حدث ذات يوم أن تأخرت مركبات ناديجدا في اجتيازها مساحة القصر، حوالي الساعة عن موعدها المحدد، ولم يكن الفنان مخطراً بهذا التأخير المفاجئ، وعند خروجه فوجئ بمركبة ناديجدا تتقدم صوبه وهي بداخلها فأسقط بيده، ولات من مفر، فالتقت عيونهما لأول مرة بعد 13 عاماً من الرسائل الملتهبة والغرام المشبوب، فتملكه اضطراب عظيم، وأحنى رأسه محيياً، ولم تكن هي أقل منه اضطراباً، فأومأت برأسها رداً للتحية، حدث ذلك في ومضة، فأمرت سائقها بمتابعة المسير.

بينما أسرع تشايكوفسكي يكتب إليها معتذراً، لكنها كتبت إليه: تعتذر لأنك قابلتني مع أنني في قمة السعادة لهذا السبب، لقد جعلتني أحس بحقيقة وجودك بيننا، لقد كنت سعيدة بعد أن رأيتك، سعادة تفوق كل احتمالي حتى إنني ما استطعت حبس دموعي.

نجح تشايكوفسكي وأصبح ثرياً، يحمله الجمهور على الأعناق، وفي غمرة هذا النجاح كان قلقاً، فقد انقطعت عنه رسائل ناديجدا، فعاد إلى منزله في موسكو علّه يجد رسالة منها، لكن أمله خاب.

وبعد بضعة أيام جاءته رسالة من زوج ابنتها، يخبره فيها أن السيدة مريضة، ولا تستطيع أن تكتب له. كانت قد أصيبت بالسل. صدمته الحالة وقد بلغ الـ51 عاماً، وتربع لتوه على القمة الشهرة والمال.

وهنا كتب «السيمفونية الحزينة» فجاءت ناطقة باليأس وكان عملاً تاريخياً غير مسبوق. وبعد عزف السمفونية بـ4 أيام، تحديداً وفي الثالث من أكتوبر 1893 مرض تشايكوفسكي وبدأ يهذي باسمها، ثم مات. وبعد شهرين على وفاته، ماتت ناديجدا.

Email