«شخصيات تحت المجهر»

شمعة محمد.. عُمانية ولدت بالكويت ودرست بالبحرين وتوفيت بالسعودية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأت في سلطنة عمان مع استلام السلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد، رحمه الله، لمقاليد الأمور سنة 1970، نهضة جبارة لم ترتق بالأحوال الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية للعمانيين فحسب، وإنما امتدت آثارها إلى الحياة الثقافية والفنية بمختلف روافدها. 

ومن يتفحص الأدبيات العمانية ذات الصلة بالفنون، سيجد أن المجتمع العماني عرف المسرح من خلال النشاط المدرسي للمدرسة «السعيدية» في مسقط ومطرح وصلالة، ففي هذه المدارس استثمر المعلمون شغف تلامذتهم بالتمثيل، فأقاموا مسارح في الهواء الطلق، لتقديم عروض مسرحية بالفصحى، غالباً ما اعتمدت على النصوص التاريخية والدينية المأخوذة من المناهج الدراسية، وغالباً ما كانت تقدم في حفلات نهاية العام الدراسي.

وهكذا ظل المسرح ينشط بخجل وبطريقة موسمية إلى أن جاء عصر السلطان الراحل قابوس، فازدهرت الحركة المسرحية ما بين عامي 1971 و1975 من خلال النادي الأهلي وشبابه المتحمس، خصوصاً أولئك الطلبة الشباب، الذين ابتعثوا لتكملة دراستهم الجامعية في القاهرة وبيروت، ما أتاح لهم فرص التماس المباشر مع العروض المسرحية في تلك العواصم، فكان ما شاهدوه في المسارح، وما مارسوه في الجامعات من تجارب مسرحية باعثاً لهم، وحافزاً لأن يحملوا تلك الخبرة إلى بلدهم.

وفي فترة الثمانينيات شهد المسرح العماني طفرة كبيرة، وتنوعت العروض بين الكوميدي والاجتماعي والتاريخي، والفلسفي، وتم السماح للفتاة العمانية بالصعود على خشبة المسرح، وأدركت الدولة أهمية هذا الفن، فأقامت له المسابقات، وأسست له الفرق، ووفرت له الدعم المادي، ليكون سلاحاً ناعماً للبلاد، واستقدمت له مخرجين عرب من مصر لتقديم خبراتهم، ومن نافلة القول: إن مثل هذا الدعم سمح بظهور العديد من الفرق الأهلية، التي تعددت مسمياتها واهتماماتها، فراحت تتنافس في ما بينها، الأمر الذي تأصلت معه ملامح المسرح العماني بمساهمة عدد من الرواد مثل محمد إلياس فقير، ورضا عبد اللطيف، وموسى جعفر.

وعلى منوال التطور الذي حدث للحركة المسرحية، طال التغيير والتطور النشاط السينمائي أيضاً، فالسينما التي عانت من الإهمال طويلاً لعدم وجود دور عرض حديثة ثابتة، وعدم وجود قنوات تلفزيونية تبث الأفلام السينمائية، انقلب حالها هذا منذ السبعينيات حينما ظهرت دور العرض الحديثة، التي راحت تعرض الأفلام الهندية والعربية والغربية، وتمهد لنشوء ثقافة سينمائية جماهيرية، على الرغم من ضعف الإمكانات آنذاك، لكن بمرور الوقت ظهر جيل من الأدباء والمبدعين المهتمين بصناعة السينما مثل عبدالله حبيب، الذي درس السينما في أمريكا، وقدم مجموعة من الأفلام القصيرة الجيدة، وخميس الرفاعي الذي تعلم في القاهرة، ومنصور عبدالرسول، الذي عمل وتعلم في التلفزيون، ومع نهايات الثمانينيات كانت ملامح السينما العمانية قد تأطرت بوضوح، من خلال ثلاث تجارب ناضجة للمخرج والمصور العماني المحترف حاتم الطائي. بعدها، وبفضل ظهور الكاميرات الرقمية، حدثت طفرة في تقنيات الفيلم العماني، وبرزت أسماء جديدة في عوالم الإخراج والتصوير والتمثيل، وتم إشهار الجمعية العمانية للسينما عام 2006، وراحت السينما العمانية تتناول قضايا المجتمع بجرأة وحرية أكبر، وتنتج أفلاماً روائية طويلة، وتشارك بها في المهرجانات الدولية، هذا ناهيك عن تأسيس مهرجان مسقط السينمائي في عام 2001م.

وينطبق ما قلناه حول المسرح والسينما على الدراما الإذاعية والتلفزيونية، فالأخيرة ولدت وتطورت بقوة وثبات وخصوصية مع تأسيس هيئة الإذاعة والتلفزيون، التي سارع فنانون ومبدعون عمانيون كثر إلى الانخراط بها ككتاب ومخرجين وممثلين من أمثال الفنان الراحل جمعة الخصيبي، وصالح زعل، والمخرج أمين عبد اللطيف، فأسهم هذا الجيل في صناعة تاريخ للدراما العمانية، بل نجح أيضاً في إفراز مواهب فنية وأعمال خالدة جعلت من اسم عمان مرادفاً للإبداع والفن الراقي.

من بين الأسماء الفنية المعروفة على مستوى عمان ودول الخليج والعالم العربي، من تلك التي كانت ثمرة من ثمار ازدهار الحركة المسرحية والدرامية في السلطنة، وبالتالي تمدد مبدعيها ونجومها إلى الإطار الخليجي الأوسع، تعاوناً ومشاركة، يبرز اسم الفنانة الراحلة «شمعة محمد»، التي خسرتها عمان وافتقدتها الساحة الفنية الخليجية والعربية بوفاتها المفاجئة في 16 مارس 2022 إثر نوبة قلبية، تعرضت لها في الرياض أثناء مشاركها بالتمثيل في عمل درامي.

وبهذا انطفأت شمعة الدراما العمانية المحبوبة ذات الصدر الرحب والقلب الكبير والأداء المتقن والمشاعر الدافئة، والتي نزل خبر وفاتها كالصاعقة على رؤوس زملائها الكثر في الوسط الفني الخليجي، وعلى عشاق فنها ممن اعتادوا رؤيتها على الشاشة الفضية على مدى أربعة عقود، فراحوا يبكونها ويترحمون عليها ويرثونها بأصدق العبارات، فقد نعاها مثلاً زميلها النجم الإماراتي حبيب غلوم قائلاً: «صباح مظلم وحزين بهذا الخبر الموجع. الله يرحمك يا أم قيس الغالية ويغفر لك ويصبر قلوبنا على فراقك، ويا خسارة هالإبتسامة تنطفئ من حياتنا، وخسارة هالقلب الكبير يتوقف.. اللهم لا اعتراض على حكمك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

ولدت «شمعة محمد عبدالله الهوتي» الشهيرة بـ«شمعة محمد» بالكويت في 19 فبراير 1958، وكان سبب ميلادها بالكويت هو إقامة والديها هناك، حيث كان والدها محمد الهوتي قد هاجر إلى الكويت بحثاً عن الرزق في خمسينيات القرن العشرين. ولهذا نشأت شمعة في ميناء الأحمدي، حيث كان والدها يعمل موظفاً بشركة نفط الكويت، وبسبب عمل والدها في شركة نفط أجنبية كانت لغة المخاطبة عنده في العمل والمنزل هي الإنجليزية، ما جعل ابنته شمعة تتأثر به، وتتعلم الإنجليزية بسهولة، وتتفوق فيها في مدرستها إلى درجة أنها فضلت الانضمام إلى فرقة التمثيل باللغة الإنجليزية على الانضمام إلى فرقة التمثيل باللغة العربية، بحسب ما قالته في حوار صحافي، وبهذا فإن بدايات شغف شمعة بالفن والتمثيل تعود إلى فترة دراستها بمدارس الكويت، حينما شاركت بنجاح لافت في مسرحية باللغة الإنجليزية، تقمصت فيها دور أم لأحد الأطفال.

وفي سيرة شمعة أنها درست ما بين الكويت والبحرين، إذ يبدو أن والدها انتقل للعمل في البحرين فانتقلت معه أو كان ينتدب لفترات طويلة للعمل أو التدريب في البحرين، فتلتحق به أسرته، ولا يوجد ما يشير إلى أنها واصلت نشاطها المسرحي بمدارس البحرين، لكنها قالت إنها بعد نجاح مسرحيتها المدرسية في الكويت توقفت بسبب الزواج والمسؤوليات الأسرية والحياة الزوجية، ما يعني أن زواجها من المرحوم محمد سبيل (ت: 2020)، والذي أثمر عن أربعة أبناء (قيصر وقيس وسيما وسوسن) كان في سن مبكرة.

في عام 1974، عادت شمعة إلى وطنها الأم مثلما فعلت جموع العمانيين في الشتات، للمساهمة في النهوض ببلدهم، فالتحقت للعمل بوزارة التربية والتعليم في العام ذاته، ثم انتقلت منها لتولي منصب نائب مدير العلاقات العامة في مجلس المناقصات. وفي هذه الفترة شعرت بحاجتها للعودة إلى ممارسة هوايتها القديمة في التمثيل. وحول هذا أخبرتنا أنها واجهت الكثير من المصاعب والعراقيل والاعتراضات من قبل ذويها، بسبب العادات والتقاليد المحافظة، لكن أخيها الأكبر المحامي عبدالله الهوتي ساندها ووقف بجانبها لتخطي التحديات، وأنها من جانبها قررت أن تخطو خطواتها في مجال الفن تدريجياً وبطريقة محسوبة بحيث تبدأ من الإذاعة، ثم تنتقل منها إلى التلفزيون فإلى المسرح، ففي التلفزيون مثلاً كان أول عمل لها عبارة عن فيلم حول محو الأمية لصالح وزارة التربية والتعليم التي كانت إحدى موظفاتها آنذاك.

وحينما وصلت إلى أبواب المسرح، الذي عشقته، كان قد سبقتها عمانيات من أمثال الفنانتين فخرية خميس وأمينة عبدالرسول اللتين تعتبران ضمن مؤسسات ورائدات الدراما العمانية، فعملت معهن وتمكنت من ترسيخ أقدامها واسمها على الساحة المحلية، بدليل أن أول أعمالها المسرحية المتمثل في مسرحية «المهر»، تم عرضه في كل ولايات السلطنة، ثم بدليل مشاركتها في أكثر من 25 مسرحية عمانية، بعضها عرض خارج السلطنة، ناهيك عن تكريمها مسرحياً على المستويات المحلية والخليجية والعربية.

وفي عام 2000 بدأت انطلاقتها التي أسهمت في تعرف الجمهور الخليجي الأوسع عليها كفنانة درامية، وذلك من خلال مسلسل «بيتنا الكبير» الذي عرض في عام 2003 وجمع عدداً كبيراً من نجوم عمان وبقية دول الخليج العربية. في هذا العمل الذي استقبله جمهور الشاشة الصغيرة بالترحاب والقبول بسبب قصته المتمحورة حول موسم السفر والغوص في كويت الأربعينيات، ثم بسبب فنيات المخرج القدير عبد الخالق الغانم، تقمصت شمعة دور والدة «عايش» الذي قام بدوره الممثل العماني سعود الدرمكي.

وهذا يقودنا إلى موضوع تساءل عنه الكثيرون وهو لماذا أصرت شمعة على تقمص دور الأم في الغالب الأعم من أعمالها الدرامية، على الرغم من أن جمالها وشبابها يؤهلانها لأداء أدوار أخرى كالزوجة والحبيبة. في إجابتها قالت شمعة إنها بدأت بدور الأم في أول عهدها بالتمثيل في مدرستها الكويتية، ثم قررت أن تلتزم بهذا الخط، لأنها شعرت أن شخصية الأم مغروسة بداخلها، وأضافت: إنها لم تفكر بتقديم أدوار الغرام والعشق، وابتعدت عنها أولاً للحفاظ على بعض القيم والعادات والتقاليد، وثانياً لأنها لم ترد أن تغضب والديها وأخوتها وزوجها فتفقد ثقتهم ودعمهم، وثالثاً لأن ظهورها في أدوار مختلفة قد يسيئ إلى سمعة أولادها في محيطهم الوظيفي أو الدراسي.

قالت شمعة رداً على سؤال حول مدى رضاها عن أدوارها على الشاشة، إن كل الأدوار والشخصيات التي قدمتها على الشاشة كانت راضية عنها تماماً لأنها هي التي اختارتها، وأنه لا يوجد دور قدمته ولم يعجبها، مضيفة إن كل فنان يدعي أنه غير راضٍ عن دوره فهو كاذب لأنه قرأ النص واختار الدور.

وفي سياق الحديث نفسه أخبرتنا شمعة قبل عامين من وفاتها أنها تمنت طويلاً أن تقدم دور سيدة عمياء تبصر بإحساسها وقلبها وروحها بعد أن أخذ الخالق منها نعمة النظر، وبالفعل قدمتْ هذا الدور من خلال المسلسل العماني «ومضة فنار» سنة 2011، وإنها تتمنى مستقبلاً أن تجسد دور أم مقعدة من ذوي الاحتياجات الخاصة، تحتاج إلى اهتمام ورعاية سيكولوجية من أبنائها.

وحول رأيها في الدراما الخليجية وعما إذا كانت قد نجحت في رسالتها تحدثت أولاً عن الدراما العمانية، التي بحسبها تطورت كثيراً بفضل جهود مخرجين محليين كبار من أمثال المخرج أمين عبد اللطيف الذي درس في القاهرة، ثم انتقلت للدراما الخليجية فقالت إنها نجحت في إيصال رسالتها للناس، لكنها لم تتطرق بعد إلى الكثير من المشكلات والقضايا الاجتماعية مثل التفكك الأسري وضحايا الطلاق والزيجات السريعة وحياة الأرامل وأعمال الخير، واحتياجات الطفل، مضيفة: «أقول كفانا من قصص العشق والغرام والحب والخير والشر في الدراما فهذه موجودة منذ بدء الخليقة في الدنيا لا بد أن نسلط الأضواء على المشكلات الموجودة بالمجتمع. لا بد أن نبحث في الموروث الشعبي الزاخر بالقيم والمبادئ ونسلط عليها الضوء ونقدمها للناس ليعرفوا تاريخنا».

من مشاركتها الدرامية المهمة، عملها في بعض حلقات مسلسل «طاش ما طاش» الجماهيري الناجح مع الثنائي السعودي المبدع ناصر القصبي وعبدالله السدحان، ثم عملها مع القصبي في الجزء الثاني من مسلسل «العاصوف» عن التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية في السعودية، علاوة على مشاركتها في مسلسلات ومنها: «ريح الشمال»، «ما أصعب الكلام»، «غربة مشاعر»، «نقش حنة»، «بريق المال»، «سواق وشغالة»، «قيود الزمن»، «نعم ولا»، «المقطار»، و«يا تصيب يا تخيب».

Email