بريطانيا والعهد الجديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

بوفاة الملكة إليزابيث الثانية ينتهي عهد ويبدأ عهد جديد. الكثير منا لا يتذكر بريطانيا إلا والملكة إليزابيث الثانية تحكمها. فعهدها امتد لأكثر من سبعين عاماً، خلالها شهد العالم العديد من التحولات الجذرية أولها التعامل مع تحولات الحرب العالمية الثانية، وآخرها ربما تداعيات جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا. خلال هذه الفترة قام النظام الملكي تحت حكم الملكة بالتأقلم مع كافة المتغيرات التي رافقت تلك الفترة مع الحفاظ على لب التقاليد الملكية وصيانتها. ومما يحسب للملكة أنها حافظت على المؤسسة الملكية وحمتها من كل التقلبات، وعملت بإخلاص وتفانٍ في خدمة وطنها.

لم تكن إليزابيث بالنسبة لبريطانيا مجرد ملكة، بل كانت رمزاً للوحدة الوطنية وتجسيداً لأحلام العديدين الذين آمنوا بفكرة الإمبراطورية البريطانية التي كانت في يوم ما لا تغيب عنها الشمس. وقد عرف عن الملكة إخلاصها وتفانيها في خدمة بلدها حتى الرمق الأخير. وعلى الرغم من أنها جاءت إلى العرش والإمبراطورية البريطانية تكاد تغرب عنها الشمس، إلا أنها وجهت كل جهودها للارتقاء بمصالح بلدها وتوثيق عرى التعاون مع دول الكومنولث تلك المنظمة التي تضم حوالي 54 دولة من دول العالم، والتي أصبحت إليزابيث رئيسة لها.

وفاة الملكة بعد هذا العمر الطويل يعد بالنسبة لبريطانيا انتهاء العصر الإليزابيثي، وبدء مرحلة جديدة لا يستطيع أحد التكهن بما سوف يسفر عنها. فالمرحلة الجديدة لا تبدو بالنسبة للفرد البريطاني مرحلة عادية. فبريطانيا تعاني من عدة قضايا صعبة، وليس لها حلول آنية، منها التضخم الاقتصادي وارتفاع أسعار الطاقة وتداعيات الانسحاب البريطاني من أوروبا (البريكست) والهجرة غير المشروعة إلى بريطانيا، وقضايا أخرى تقلق أصحاب القرار هناك. هذه القضايا تسبب إرباكاً كبيراً ليس فقط للحكومات المتعاقبة، بل للفرد البريطاني عموماً، والذي ينتظر من الحكومة الجديدة إجراءات جذرية تضع حلولاً سريعة تنهي المشاكل التي تعاني منها الطبقات العاملة والمتوسطة.

بالنسبة لغير البريطانيين وتلك الدول التي كانت يوماً ما تحت السيطرة البريطانية فإن وفاة الملكة تعني انتهاء تلك المرحلة التي كانت فيها دولهم تحت الاستعمار أو السيطرة أو الحماية أي كان شكلها، وبدء مرحلة جديدة قائمة على الندية والاحترام المتبادل وحماية المصالح الوطنية. فمثلاً، دول عديدة في أفريقيا والشرق الأوسط، نالت استقلالها خلال العهد الإليزابيثي. وعلى الرغم من أنه العهد الذي شهد العديد من حالات الاستقلال والانفصال عن الإمبراطورية العظمى إلا أنه يعد فعلياً العهد الذهبي، حيث شهدت بريطانيا استقراراً وتطوراً اقتصادياً.

وفاة الملكة فتحت العديد من الملفات الجدلية؛ البعض تعاطف مع الشعب البريطاني الذي فقد ملكته بوصفها إنسانة عاشت وماتت وهي تخدم وطنها بإخلاص وتفانٍ حتى آخر لحظة من حياتها، والبعض الآخر بدأ في توجيه النقد للملكية كمؤسسة سياسية بوصفها تمثل الإمبراطورية التي نهبت يوماً ما خيرات الشعوب لتبني أعظم إمبراطورية شهدها التاريخ الحديث. السمات التي تميز بها الاستعمار البريطاني هي نفسها التي ميزت كل استعمار عرفه التاريخ. فلم يكن هناك استعمار أفضل من آخر، حيث إن كل استعمار حرص على حماية مصالح دوله على حساب أي شيء آخر حتى ولو كان ذلك الحقوق البسيطة للمستعمرات.

البعض الثالث يحاول التركيز في الوقت الراهن على تذكر مآثر الملكية كمؤسسة تخدم الاقتصاد والسياحة عوضاً عن التركيز على المثالب. فمما لا شك فيه أن الملكية خدمت ولا زالت تخدم الاقتصاد البريطاني بقوة. فملايين السياح يأتون إلى بريطانيا سنوياً لزيارة القصور الملكية والآثار والمتاحف الملكية.

إن بريطانيا التي استقبلت ملكاً جديداً على العرش سوف تبدأ مرحلة جديدة من تاريخها، مرحلة ينظر لها المراقبون الخارجيون على أنها مرحلة مؤثرة في تاريخ التاج البريطاني والتاريخ الدولي. وعلى الرغم من أن الملك لا يملك فعلياً سلطة اتخاذ القرار السياسي إلا أن الملك شارلز الثالث بما يمتلك من خبرة طويلة وعلاقات دولية جيدة مع قادة العالم، سوف يكون رصيداً جيداً لبريطانيا. فقد استطاع خلال خمسة عقود من العمل السياسي بناء جسور التواصل والصداقة مع قادة العالم. كما أنه يمتلك رؤية تقدمية ومتعاطفة مع قضايا العالم الثالث. ولهذا ينظر له الكثيرون على أنه سوف يكون فاتحة عهد مغاير لبريطانيا.

Email