حكم قضائي نادر في تايلاند يحرج الحكومة العسكرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ماذا يجري في تايلاند؟ وهل حان وقت رحيل حكومتها العسكرية الحالية؟ وما هو البديل؟ هذه الأسئلة طفت على السطح أخيراً بمجرد إصدار المحكمة الدستورية حكماً نادراً أمرت فيه رجل البلاد القوي رئيس الوزراء الجنرال «برايوت تشان أوشا» بالتخلي مؤقتاً عن قيادة البلاد إلى حين البت في طعن رفعته المعارضة حول عدم دستورية وجوده في السلطة، ليس لأنه قاد في العام 2014 انقلاباً عسكرياً ضد حكومة مدنية انتخبت ديمقراطياً في ذلك العام، وإنما بسبب تجاوزه المدة القانونية في السلطة والمحددة بثماني سنوات.

والجدير بالذكر أن حكومة الجنرال برايوت ورفاقه العسكريين، وبفضل صرامتها وسرعة تعاطيها مع وسائل الإعلام المنفلتة وضبطها للحريات السياسية، أمنت للبلاد منذ عام 2014 شيئاً من الاستقرار، بل أنقذتها من الفوضى، ومن شبح حرب أهلية كان يلوح في الأفق بسبب الاستقطابات الحادة بين فريق القمصان الصفراء المؤيد للملكية وفريق القمصان الحمراء المؤيد لرئيس الوزراء الأسبق المثير للجدل «تاكسين شيناواترا».

لقد جاء قرار المحكمة الدستورية آنف الذكر مفاجئاً حتى لرموز المعارضة أنفسهم لأن محاكم البلاد اعتادت دوماً تحاشي إصدار أحكام تضر بالسلطة الحاكمة، لكنها هذه المرة خالفت التوقعات، وإن لم يكن حكمها حاسماً ونهائياً. وعلى الرغم من ذلك فإن قوى المعارضة خرجت مبتهجة وكأنها حققت نصراً مبيناً في مواجهة خصومها الذين يتحججون بأنه يجب احتساب وجود الجنرال في الحكم من تاريخ الانتخابات التي أجريت سنة 2019 بموجب الدستور الجديد (الحالي)، وليس من تاريخ قيادته لانقلاب سنة 2014.

وبقدر ما أثار حكم المحكمة الفرح عند المعارضة والصدمة عند الحكومة العسكرية ومؤيديها، فإنه أحدث أيضاً لغطاً ومخاوف. ذلك أن منحه مهلة للعسكر للرد على طعونات المعارضة (بدلاً من إجبارهم على ترك الحكم)، وعدم البت فوراً في دستورية وضع الجنرال برايوت يعني أن الأخير قد ينصاع للحكم فلا يحضر جلسات مجلس الوزراء، بصفته رئيساً للحكومة وإنما يحضرها بصفته وزيراً للدفاع، وبالتالي احتمال قيامه بدور الآمر الناهي وفرض مرئياته على أعضاء المجلس، ومعظمهم من رفاقه في السلاح ومن ذوي الرتب الأدنى.

بعد هذا الحكم القضائي غير المسبوق أبداً أبدى مراقبون كثر مخاوفهم من احتمال عودة التأزم إلى الحياة السياسية التايلاندية وتطور ذلك إلى حالة من الفوضى شبيهة بما كان عليه الوضع قبل انقلاب 2014. فبمجرد صدور حكم المحكمة الدستورية بدأ البعض بالتجمع والاحتجاج في بانكوك، محاولاً الضغط المبكر على القضاء كي يواصل تحديه لجنرالات الجيش ويحسم أمر برايوت قبل أن يستغل الأخير استضافة البلاد لقمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) المقرر انعقادها منتصف نوفمبر المقبل لتلميع صورته عالمياً. وهذا العمل الاحتجاجي قد يتطور وتقابله أعمال مضادة، خصوصاً وأنه ليس من الواضح الوقت الذي تحتاجه المحكمة الدستورية لإعلان حكمها النهائي في قضية خلع الجنرال برايوت من عدمه.

دعونا نفترض صدور الحكم النهائي سريعاً وبالصورة التي تتمناها المعارضة. إن من شأن ذلك أن تـُجرى انتخابات جديدة بحلول مايو 2023. لكن المشكلة ستكمن مجدداً في مدى نزاهة الانتخابات في بيئة منقسمة على نفسها إلى فريقين، ما يعني أنه بمجرد ظهور النتائج سيطعن الفريق الخاسر ويشحن أنصاره ضد الطرف الفائز، ليعود الاحتراب إلى الشارع وتتعطل الأعمال والأنشطة والسياحة.

ومن هنا ترددت أنباء، مصدرها القوى المحافظة المؤلفة من رجال البلاط الملكي وكبار رجال الأعمال ورموز حركة القمصان الصفراء، حول قيام هؤلاء بالضغط على برايوت كي لا يترشح في الانتخابات المقبلة أملاً في عدم إثارة المناوئين للجيش. والجدير بالملاحظة أن فريق القمصان الحمراء قد بدأ الاستعداد منذ الآن لخوض المعترك الانتخابي المقبل عبر الرهان على السياسية المبتدئة «باتونغ تارن شيناواترا» (ابنة رئيس الحكومة الأسبق)، كزعيم قادم للبلاد، علماً أن استطلاعات الرأي ترجح فوزها والذي سيتلوه حتماً إصدارها عفواً عن والدها.

يعكس هذا الوضع حالة التمزق الذي أحدثه شيناواترا في المجتمع التايلاندي منذ ظهوره على مسرح الأحداث أواخر التسعينيات. صحيح أنه نجح في الوصول إلى السلطة عام 2001 وحقق إنجازات كثيرة، لكنه راح يخسر تأييد الطبقة الوسطى المتعلمة وسكان المدن، بسبب فساده وديكتاتوريته وتحرشه بالبلاط الملكي، وشراء أصوات المهمشين والفقراء والفلاحين.

واضطر في النهاية أن يفر من البلاد بُعيد انقلاب عسكري سنة 2006 وصدور أحكام ضده بالفساد، لكنه لم يتخل عن طموحاته وظل صانعاً للأحداث وخالقاً للأزمات من بعيد، بدليل استخدامه ثروته الطائلة في انتخابات عام 2019 والتي حلّ فيها بالمركز الأول دون أن يستلم السلطة مجدداً بسبب فراره. وكانت النتيجة أن السلطة ذهبت إلى الفائز بالمركز الثاني وهو حزب «بالانغ براشارات» المحافظ بزعامة الجنرال برايوت.

Email