شخصيات تحت المجهر

محمد بن إبراهيم مسعود.. أول وزير دولة سعودي دون تخصيص

ت + ت - الحجم الطبيعي

المدقق في تاريخ التشكيلات الوزارية في السعودية منذ تأسيس أول مجلس للوزراء في عهد الملك سعود سنة 1953 يجد أن منصب «وزير دولة» استحدث لأول مرة في التشكيل الوزاري الثاني في عهد الملك سعود سنة 1960 وكان مخصصاً بمعنى أنه ألحق به عبارة «لشؤون رئاسة مجلس الوزراء»، وكلف به الشيخ ناصر المنقور. غير أن حقيبة «وزير دولة» دون تخصيص ظهرت لأول مرة في التشكيل الوزاري الخامس زمن الملك خالد بن عبد العزيز سنة 1975. ففي هذه السنة تضمنت قائمة الوزراء اسم الشيخ محمد بن إبراهيم مسعود وزيراً للدولة، إلى جانب اسم آخر تولى المنصب ذاته هو الدكتور محمد بن عبد اللطيف الملحم. وعليه فإن الشيخ مسعود يعد أول شخصية سعودية تـُكلف بهذا المنصب (دون أن تلحق به عبارة لشؤون كذا أو كذا) في تاريخ الوزارات السعودية المتعاقبة.

على أن حديثنا هنا عنه ليس لهذا السبب وحده. فالرجل أيضاً صاحب تاريخ حافل في خدمة وطنه، ولا سيما على الصعيد الدبلوماسي منذ الفترة السابقة لتأسيس وزارة الخارجية السعودية سنة 1930. كما أنه من الشخصيات التي راكمت تجربة طويلة في الخدمة العامة منذ عهد الملك عبد العزيز، حيث عمل معه لمدة 15 عاماً، ناهيك عن أنه من رجالات السعودية الذين عرفوا بالحنكة والإخلاص والتفاني والتواضع الجم والابتعاد عن مظاهر البهرجة، بدليل أنه ظل يقود سيارته الخاصة العتيقة من نوع «فولكس واغون» بنفسه في شوارع جدة حتى بعد أن تقلد المنصب الوزاري.

لم يـُكتب الكثير عن الوزير مسعود، كما أنه رفض أن يـُصدر مؤلفاً عن سيرته الذاتية وتجاربه الغزيرة، على غرار ما فعله غيره.

ولد محمد بن إبراهيم مسعود بمدينة جدة في 19 يناير 1919م، ابناً لعائلة مسعود التي تعد من العائلات التي سكنت جدة داخل سورها القديم وشكلت جزءاً من تاريخها ونسيجها الاجتماعي، منذ عشرينات القرن الماضي. وبدأ تعليمه العام بالالتحاق بمدرسة الفلاح بجدة التي أسسها تاجر اللؤلؤ الحجازي المعروف الحاج محمد علي زينل سنة 1905م. وبعد تخرجه من هذه المدرسة الرائدة، التي تخرج منها معظم الكوادر المتعلمة الأولى التي حملت على أكتافها بناء الدولة السعودية الثالثة، حصل على وظيفة أمين صندوق بمدرسته وهو في سن الثامنة عشرة. غير أن بقاءه في هذه الوظيفة لم يدم طويلاً. فبعد عام تقريباً تركها ليسافر إلى لبنان لمواصلة تعليمه، وهناك التحق بكلية التجارة التابعة للجامعة اللبنانية الوطنية.

في عام 1939 عاد من لبنان إلى وطنه، متوجاً بالشهادة الجامعية فحصل على وظيفة «كاتب شفره» في مكتب المعادن والأشغال العمومية بوزارة المالية، ليترقى سنة 1943 إلى وظيفة «رئيس قسم التموين» بدرجة مدير عام، ما يعني ثقة رؤسائه فيه وارتياحهم لجهوده وإخلاصه.

وفي منعطف مفصلي في حياته تمّ اختياره سنة 1944 من قبل الملك عبد العزيز ليتولى منصب «المستشار العربي وضابط الاتصال» بين السفارة الأمريكية بجدة والحكومة السعودية، وظل بهذا المنصب حتى أوائل الخمسينيات، سافر خلالها مع الأمير عبد الله الفيصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كان هذا المنصب هو مدخله إلى السلك الدبلوماسي، حيث عين سنة 1951 وزيراً مفوضاً بوزارة الخارجية. وخلال هذه الفترة انتقل للعمل في بغداد، أولاً كوزير مفوض ثم كسفير لبلاده لدى العراق، فعاصر الأحداث الدامية التي غيرت وجه العراق بُعيد انقلاب الجيش على النظام الملكي في 14 يوليو سنة 1958.

وفي عهد الملك سعود تمت ترقيته فصار وكيلاً لوزارة الخارجية بالإنابة، ليعين في عهد الملك فيصل، وتحديداً في مايو 1968، كوكيل أصيل للخارجية، ثم في أغسطس 1971 شغل المنصب الأخير على المرتبة الممتازة. وفي عام 1975 أصدر الملك فيصل قراراً بتعيينه وزيراً للدولة للشؤون الخارجية، غير أنه سرعان ما دخل في الحكومة التي شكلها الملك خالد، بُعيد وفاة الملك فيصل سنة 1975 كوزير للدولة وعضو بمجلس الوزراء، وهو المنصب الذي ظل محتفظاً به حتى تقاعده عن العمل سنة 1995، علماً أنه خلال هذه السنوات العشرين تمّ تكليفه بحمل عدد من الحقائب الوزارية بالإنابة مثل وزارات الإعلام، والبترول والثروة المعدنية، والحج، والبرق والبريد والهاتف. كما أنه كان عضواً في العديد من اللجان والكيانات السياسية والاقتصادية الحكومية وغير الحكومية.

وللوزير مسعود، الذي كان يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، تاريخ حافل بتمثيل المملكة العربية السعودية وملوكها الأربعة الذين عاصرهم وعمل في خدمتهم، إضافة إلى مشاركته في العديد من المناسبات والأحداث التي شهدها العالمان العربي والإسلامي.

فقد كان عضواً في العديد من الوفود المرافقة لملوك السعودية في زياراتهم الخارجية أو مرافقاً للأمراء الذين أوفدوا لتمثيل السعودية في احتفالات استقلال الدول العربية والإسلامية والأفريقية، أو في مناسبات نقل تعازي القيادة السعودية إلى قادة الدول، أو في مناسبات تمثيل المملكة في اجتماعات الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وحركة عدم الانحياز وقمم منظمة الأوبك وقمم مجلس التعاون الخليجي ومباحثات الاتحاد التساعي بين دول الخليج في الدمام والدوحة وأبوظبي والكويت.

ومما يجدر بنا ذكره في هذا السياق أيضاً أن الرجل حظي بلقب «الموفد الخاص» لأنه كثيراً ما أوفد من قبل ولاة الأمر كمبعوث خاص على غرار ما حدث في عام 1971 حينما أوفده الملك فيصل إلى الدوحة في مهمة تتعلق بمفاوضات الاتحاد التساعي الخليجية، وما حدث في عام 1976 حينما أوفده الملك خالد إلى سوريا في مهمة تتعلق بالحرب اللبنانية الأهلية، وما حدث في عام 1984 حينما أوفده الملك فهد إلى جنيف ولوزان ليمثل المملكة في اجتماعات المصالحة اللبنانية.

والأمر الآخر الذي لا مناص من التوقف عنده هو الدور الدبلوماسي الذي لعبه في إنجاز عدد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المهمة التي كانت السعودية طرفاً فيها، ولا سيما معاهدة الحدود السعودية ــ اليمنية، واتفاقية الحدود السعودية ــ العمانية.

وحول الاتفاقية الأخيرة سرد لنا ابنه رحاب في حديثه إلى صحيفة الشرق الأوسط (31/‏‏12/‏‏2000) قصة ضمن القصص والدروس الكثيرة التي تعلمها من والده في فنون الدبلوماسية والتعامل. يقول رحاب إنه رافق والده في رحلة إلى مسقط لنقل رسالة من الملك فهد إلى السلطان قابوس، رحمهما الله، ذات صلة باتفاقية الحدود بين البلدين، موضحاً أنه «تصادف أن السلطان قابوس التقى مبعوثاً روسياً قبيل لقائنا، وحينما جاء موعد لقائنا فوجئت بأن والدي بدأ الحديث في أمور أخرى لا تتعلق بموضوع الرسالة، فقد تحدث مع السلطان في الأدب والشعر والموسيقى، واندمج الاثنان في هذا الحديث، ثم تحدث معه بعد ذلك في موضوع الرسالة».

وأضاف: «لدى عودتي في الطائرة سألته حول سبب بدء الحديث عن الأدب والشعر والموسيقى عوضاً عن الموضوع الرئيسي»، فرد مجيباً: «على الدبلوماسي أن يتحسس مشاعر من يتحدث إليهم حتى تكون رسالتك ناجحة، فليس المهم أن تكون دبلوماسياً ناقلاً للرسالة فقط، بل يجب أن تكون ملماً بجميع الظروف المحيطة بالمهمة المكلف بها مثل الحالة النفسية لمن ستنقل إليه الرسالة، واهتماماته وغيرها من العوامل التي تؤثر إيجاباً في كيفية نقل الرسالة».

وبسبب صولاته وجولاته ومشاركاته في عالم الدبلوماسية والمحافل الدولية والإقليمية، حاز الوزير مسعود على العديد من الأوسمة والنياشين من حكومات إسبانيا ومصر ولبنان وموريتانيا والسنغال والصين والولايات المتحدة الأمريكية وتونس وكوريا الجنوبية. أما بلاده فقد كرمته بإطلاق اسمه على أحد شوارع حي السلام في جدة.

في يوم الجمعة 29 ديسمبر 2000، انتقل الوزير مسعود إلى جوار ربه عن عمر ناهز الواحدة والثمانين، فدفن بمقبرة المعلاة في مكة المكرمة، علماً أن وفاته جاءت على إثر تدهور صحته بعد قضائه مدة أسبوعين في المستشفى التخصصي بجدة للعلاج من تليف في الرئة.

وفور الإعلان عن نبأ وفاته تسابق محبوه وزملاؤه في الخارجية السعودية إلى نعيه ورثائه مذكرين بجميل خصاله ومكارم أخلاقه. فعلى سبيل المثال قال وكيل وزارة الخارجية (آنذاك) الدكتور نزار عبيد مدني: «لقد كانت حياته حافلة بالبذل والعطاء والجهود المخلصة في خدمة الدين والملك والوطن امتدت لنحو 60 عاماً، ولا شك أن خدمته لوزارة الخارجية كانت علامة مميزة وبارزة في مسيرتها، ترك من خلالها بصمات واضحة على العمل الدبلوماسي، وعايش من خلالها نشأة وزارة الخارجية وصاحب مراحل تطورها وتوسع علاقات السعودية الدبلوماسية حتى تقلد منصب وكيل الوزارة».

أما ولده رحاب، (الوحيد من بين أولاده الذكور الآخرين، وهم غسان وزهير وإبراهيم، الذي دخل مجال العمل الدبلوماسي فعمل لمدة 14 عاماً في وظيفة مستشار بالسفارة السعودية بواشنطن زمن السفير الأمير بندر بن سلطان قبل أن يصدر الملك عبد الله بن عبد العزيز أمراً ملكياً في 13 أبريل 2009 بتعيينه نائباً مساعداً للأمين العام لمجلس الأمن الوطني للشؤون السياسية والتعاون الدولي بالمرتبة الممتازة)، فقد أشار إلى أن والده كان يتعامل معه ومع إخوانه بالصرامة دون قسوة وبالحزم دون عنف، وكان يحرص على أدائهم لواجباتهم الدينية ويأخذهم معه لأداء العمرة يومياً خلال شهر رمضان، مضيفاً: «من الصفات التي كان يتشدد فيها دون تساهل، الصدق في التعامل والاعتراف بالخطأ.. كان أباً حنوناً باراً بوالديه مهتماً بأسرته بشكل عجيب رغم مسؤولياته الكثيرة».

Email