الواقعية الخليجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الدبلوماسية الخليجية متميزة في تفاعلاتها الدولية، وهي نتيجة لقدرتها على استقراء مجريات الأحداث بالطريقة التي مكنتها من تحقيق توازنات مهمة في ظل عالم يعاني من سياسة الشد والجذب، واستطاعت الحفاظ على مكاسبها السياسية ومصالحها الوطنية وضمان استقرارها السياسي والأمني، ما يمكّنها من الاستمرار في إكمال مسيرة التنمية التي بدأتها منذ أكثر من خمسين عاماً.

لست في مجال القيام بإجراء مقارنات بين التحركات الدبلوماسية الخليجية النشطة وكيفية إدارتها لسياساتها الخارجية لتحقيق مصالحها مع باقي دول العالم أو حتى دول المنطقة، ما يهمني هو رصد وقراءة المشهد الخليجي من حيث التطور السياسي في ملف العلاقات الخارجية، وأنها دول استطاعت أن تبني الدولة الوطنية بمفهومها الحديث على المستوى الداخلي مما مكّنها من التحرك بثقة ووضوح وقوة في بناء علاقاتها الخارجية حسب ما تستدعيه الظروف والمصالح.

والأهم في هذا الجانب هو الوضوح والصراحة لدى القيادات الخليجية في علاقات بلادهم مع الدول الأخرى، والحديث بشفافية في ما يرونه من تهديدات لأمن المنطقة، أو ما يتعارض مع سياسات بلادهم أو ثقافة وقيم مجتمعاتهم، بل حتى في التعبير للحلفاء التقليديين بأنهم أصبحوا غير موثوق فيهم بسبب مواقفهم وسياساتهم.

وبكل وضوح رفضت دول الخليج العربية الانحياز لطرف ضد طرف في الأزمة الروسية الأوكرانية، ورغم الضغوط التي مورست عليهم لاتخاذ موقف منحاز إلا أنها ثبتت على موقفها بل أصبحت من الدول التي يمكن الاعتماد عليها للعب دور الوسيط للتقريب بين وجهات نظر المتحاربين، والمساهمة في إيجاد الحلول المناسبة لإنهاء الحرب والاحتكام إلى طاولة المفاوضات، بسبب العلاقات الخليجية المتميزة مع كل الأطراف بشكل متوازن.

هناك عدد من الأبعاد الاستراتيجية التي تنطلق منها المواقف الخليجية تجاه القضايا العالمية، فلو أخذنا على سبيل المثال القضية الأوكرانية، فدول الخليج تربطها علاقات استراتيجية مهمة مع روسيا، وهي دولة كبرى وأحد أهم الفاعلين الدوليين والمؤثرين على الساحة الدولية، وتشترك مع دول الخليج بالاهتمام بعدد من القضايا والملفات كالملف السوري وملف السلام في الشرق الأوسط وتحالف «أوبك+»، بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية والعسكرية.

وفي الجانب الآخر، تبقى العلاقات الخليجية - الغربية (الولايات المتحدة والدول الأوروبية) علاقات تاريخية استراتيجية متجددة وقابلة للنمو والتطور بشكل مستمر، والطرفان الخليجي والأوروبي حريصان على المحافظة عليها وتقويتها، فبالإضافة إلى الحلفاء الغربيين التقليديين (أمريكا وبريطانيا) فهناك تحركات عملية واضحة من قبل الدول الأوروبية لتقوية وتعزيز علاقاتها مع دول الخليج، على سبيل المثال العلاقات الخليجية الفرنسية متطورة بشكل سريع، والعلاقات الإماراتية الفرنسية متعمقة في جميع الملفات ومن أبرزها ملف العلاقات الثقافية.

كما لدول الخليج مصالح وتحركات في الغرب، فهي لم تغفل عن الشرق، فالعلاقات الخليجية - الشرقية تاريخية وعميقة ومتجذرة أيضاً، مثل العلاقات مع الهند، وهي تعود لقرون عدة سابقة، والتبادل التجاري والاحتكاك الثقافي قد يكون سابقاً بمدة طويلة على العلاقات السياسية والتي تطورت كثيراً خلال الخمسين عاماً الماضية.

أما بالنسبة للعلاقات الخليجية - الصينية فهي في نمو مستمر نتيجة التوافق الكبير في المصالح المشتركة بين الطرفين، حتى أصبح بإمكاننا وصف التطور في العلاقات الخليجية الصينية بالتطورات النوعية الشاملة لكل المجالات، حيث من المتوقع أن تحظى دول الخليج العربي بفرصة لزيادة صادراتها من النفط إلى الصين، حيث ذكرت بيانات لوزارة التجارة الأمريكية أن الصين ستعتمد لتوفير 80% من احتياجاتها النفطية في العام 2030 على الأسواق الخارجية، كما أن دول الخليج تدعم مبدأ «الصين الواحدة» انطلاقاً من أحد أهم محددات السياسة الخارجية الخليجية وهو احترام سيادة الدول ورفض التدخل في الشؤون الداخلية.

من خلال هذه القراءة السريعة للسياسة الخارجية الخليجية وتفاعل الدبلوماسية الخليجية مع القضايا الدولية سواء أكانت باتجاه الغرب أم باتجاه الشرق نصل لنتيجة أن دول الخليج العربية من خلال واقعيتها السياسية ركزت على تأسيس شراكات وتحالفات قائمة على تطوير علاقاتها مع الجميع بما يحقق المصالح المشتركة، وبقدرتها ومرونتها للتعامل والتأقلم مع التحولات الدولية، واستطاعت قراءة المشهد الدولي لتحقيق مصالحها من خلال تحقيق التوازن الاستراتيجي في علاقاتها الدولية، والتأكيد أن تعزيز وتقوية علاقاتها مع الشرق لا يعني أنه على حساب علاقاتها مع الغرب والعكس صحيح.

 

Email