شخصيات تحت المجهر

عبدالوهاب محمد عزام.. أول رئيس لأول جامعة خليجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان يوم السادس من نوفمبر 1957 يوماً مشهوداً في تاريخ الخليج والجزيرة العربية بصفة عامة وتاريخ المملكة العربية السعودية بصفة خاصة.

ففيه أصدر الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله مرسوماً ملكياً جاء فيه: «بعونه تعالى نحن سعود بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية رغبةً في نشر المعارف وترقيتها في مملكتنا، وتوسيع الدراسة العلمية والأدبية وحباً في مسايرة الأمم في العلوم والفنون، ومشاركتها في الكشف والاختراع وحرصاً على إحياء الحضارة الإسلامية والإبانة عن محاسنها ومفاخرها وطموحها في تربية النشء تربية صالحة تكفل لهم العقل السليم والخلق القويم، المادة الأولى: تنشأ في مملكتنا جامعة تسمى جامعة الملك سعود».

تلا ذلك البحث عن شخصية مرموقة تتولى رئاسة الجامعة الفتية وتقودها نحو أهدافها النبيلة، فوقع الاختيار على العالم الموسوعي الأديب والفيلسوف الدكتور عبدالوهاب عزام، وكان وقتها أحد أساطير الفكر والأدب والترجمة والدبلوماسية والإدارة العرب، فتمّ استدعاؤه من وطنه مصر وقيل له إن الدولة السعودية وضعت ثقتها بكم لتولي قيادة الجامعة، فقبل الرجل التحدي وباشر مهامه متكلاً على الله ثم دعم الملك وحكومته.

ومذاك خطت الجامعة خطوات كبيرة نحو الأمام فزاد عدد كلياتها، وتوسعت منشآتها وارتفعت أعداد طلبتها وكوادرها الحكومية، حتى صارت اليوم ضمن الجامعات المهمة على الصعيدين العربي والإقليمي، بل صارت تحصد المراكز المتقدمة في القائمة السنوية لأفضل جامعات الشرق الأوسط.

تعاقب على رئاسة الجامعة من تأسيسها إلى اليوم عدد من الشخصيات الأكاديمية المرموقة، كان عزام هو الوحيد بينهم من غير الجنسية السعودية. ولد عبدالوهاب محمد حسن سالم عزام في قرية الشوبك الغربي بمحافظة الجيزة المصرية في الأول من يناير 1894، ونشأ في كنف أسرة ذات تاريخ طويل ودور كبير في الفكر والسياسة ومقاومة المحتل البريطاني.

فوالده الشيخ محمد حسن بك عزام مثلاً كان عضواً في مجلس شورى القوانين زمان الخديوي توفيق، ثم الجمعية التشريعية زمان الخديوي عباس حلمي الثاني، ثم انتخب نائباً في أول مجلس نيابي بعد صدور دستور 1923 زمان الملك فؤاد. وجده لأبيه هو الشيخ سالم بك عزام الذي كان ناظراً للجيزة، ونفي في عهد الاحتلال البريطاني لمصر إلى السودان حيث توفي ودفن بمدينة الخرطوم.

وعمه هو الشيخ حسن بك عزام من أعيان الجيزة وكان عضواً في جمعية شورى القوانين. وابن عمه هو عبدالرحمن عزام باشا الملقب بـ«غيفارا العرب» وأول أمين عام لجامعة الدول العربية وقت تأسيسها في مارس 1945.

درس عبدالوهاب عزام القرآن الكريم وحفظه في الكتاتيب التقليدية، حيث كان والده حريصاً على التعليم الديني بدليل أنه أرسله حين شب وكبر للدراسة بمدرسة القضاء الشرعي التابعة للأزهر الشريف والتي تخرج فيها عام 1920.

ولأنه كان أول الخريجين وأكثرهم تفوقاً، تمّ تعيينه مدرساً بمدرسة القضاء الشرعي. شغفه الكبير بالعلوم والمعارف قاده إلى الجامعة المصرية التي درس فيها الآداب والفلسفة، وتخرج فيها عام 1923 حاملاً ليسانس الآداب. وقتها كان البحث جارياً عن شخصية يتم إرسالها إلى بريطانيا ليعمل إماماً بالسفارة المصرية في لندن ومستشاراً دينيا لها، فوقع الاختيار عليه.

وهكذا سافر الرجل إلى بريطانيا في العقد الثاني من القرن العشرين في أولى رحلاته الخارجية، وهناك اطلع على ما كان يـُكتب عن الإسلام والعالم الإسلامي من قبل المستشرقين الأجانب، فقرر أن يدرس اللغات الشرقية الإسلامية. ولهذا التحق بمدرسة اللغات الشرقية التابعة لجامعة لندن وحصل منها على درجة الماجستير في الأدب الفارسي عام 1927.

عاد عزام إلى القاهرة بعد ذلك فعين مدرساً بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وإبان توليه التدريس قرر أن ينال درجة الدكتوراه التي حصل عليها بالفعل سنة 1932 من جامعة القاهرة (فؤاد الأول آنذاك) عن أطروحة حول «شاهنامة الفردوسي في الأدب الفارسي».

وبحصوله على هذه الدرجة الجامعية راح يرتقي درجات السلم الأكاديمي. فمن مدرس للغات الشرقية بكلية الآداب إلى أستاذ عام 1939، فإلى رئيس لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية، وصولاً إلى عام 1945 الذي تولى فيه عمادة كلية الآداب.

في عام 1947 بدأ عزام رحلة العمل في السلك الدبلوماسي والتي قادته للعمل أولاً وزيراً مفوضاً للمملكة المصرية لدى السعودية بدءاً من عام 1948، ثم تمّ نقله للعمل في السفارة المصرية في كراتشي.

وفي عام 1954 قرر الرئيس عبدالناصر إعادته إلى السعودية سفيراً مقيماً لمصر بجدة وغير مقيم في صنعاء. وأثناء توليه مهمة تمثيل بلاده لدى السعودية واليمن حان موعد تقاعده عن العمل الدبلوماسي، ولكن الخارجية المصرية مددت له فترة خدمته ليتقاعد رسمياً في عام 1956م.

وهنا، وبينما كان منصرفاً بعد تقاعده إلى تثقيف مواطنيه المصريين بأمور دينهم ودنياهم من خلال مسجد بناه في ضاحية حلوان، رأت السعودية أن تستدعيه وتوكل إليه مهمة قيادة جامعتها الوليدة لما وجدت فيه من علم واسع وخبرة إدارية، وحنكة دبلوماسية، ناهيك عن إطلاعه على ظروف وأحوال المملكة وامتلاكه شبكة من العلاقات الاجتماعية والثقافية كونها من سنوات عمله الدبلوماسي في السعودية، فكان نعم الاختيار والقرار.

على أن الأقدار لم تسمح لعزام بالبقاء في منصبه أكثر من 14 شهراً تقريباً. إذ انتقل إلى جوار ربه في السادس من يناير عام 1959، بمنزله في الرياض إثر سكتة قلبية، لينقل جثمانه إلى بلاده ويدفن في مسجده بحلوان. وإثر وفاته نعاه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله بصفته وزيراً للمعارف آنذاك من خلال بيان قال فيه: «إن خسارتنا بفقد العلامة الدكتور عبدالوهاب عزام رئيس جامعتنا الأول لأفدح من خسارة آل عزام فيه، وأفدح من خسارة وطنه مصر، ونحن فجعنا به، ولا حول ولا قوة إلا بالله».

وهكذا ترجل الفارس والعلامة المصري الذي حلق في سماوات العملين الأكاديمي والدبلوماسي، واكتسب مهارات التحدث بخمس لغات (الإنجليزية والفرنسية والفارسية والأوردية والتركية)، وانتدب مرتين للعمل بجامعة بغداد، وكان عضواً بالمجلس الأعلى لدار الكتب بالقاهرة، وحظي بعضوية المجامع العلمية في مصر وسورية والعراق ومصر وإيران، ونال التكريم من الحكومة الإيرانية بمنحه النيشان العلمي عام 1935، ومن الحكومة اللبنانية بتقليده وسام الأرز الوطني سنة 1947.

ترك عزام خلفه العديد من المؤلفات ومنها: «مدخل إلى الشهنامة العربية للبنداري» كتاب من مجلدين أصدره في عام 1932 وحقق من خلاله ترجمة الفتح بن علي البنداري لملحمة الشاهنامة للفردوسي من الفارسية إلى العربية، «التصوف في الشعر الإسلامي» (1933)، «مهد العرب» (كتاب أصدره في عام 1936 عن أصل العرب ومآثرها ومقدساتها وخصوبة أرضها وطباع أهلها وأدبهم وأخلاقهم وأشعارهم وذكائهم وأيامهم)، «ذكرى أبي الطيب المتنبي بعد ألف عام» (1936)، «نواح مجيدة من الثقافة الإسلامية» (1938)، «الرحلات» (1939)، «ديوان المتنبي» (1944)، «مجالس السلطان الغوري» (1944)، «التصوف وفريد الدين العطار» (1945)، «الأدب الفارسي» (1948)، «موقع عكاظ» (1950)، «الأوابد» (كتاب أصدره عام 1950 محتوياً على مجموعة من المقالات والدراسات الأدبية واللغوية ومنظومات من الشعر المتنوعة مستوحاة من العقيدة الدينية والروحية والإسلامية كتبها بأسلوب بلاغي رائع وبروح متأصلة)، «الشوارد أو خطرات عام في كراتشي» (1953)، «النفحات» (كتاب ألفه عام 1953 متضمناً خواطر شعرية ونثرية كتبها في ثلاثة مواسم رمضانية إبان عمله في باكستان)، «محمد إقبال: سيرته وفلسفته وشعره» (1954)، «المثاني» (1955)، «ديوان الأسرار والرموز: محمد إقبال» (1956)، «المعتمد بن عباد» (كتاب أصدره في عام 1959 عن سيرة الملك الجواد والشاعر الأندلسي الشجاع).

إلى ذلك قام بترجمة ثلاثة كتب عن الفارسية وهي: «فصول من المثنوي» (أصدره في عام 1948 عما يعرف في الشعر الفارسي بالمثنوي وهو شكل من أشكال الشعر اختص به الفرس ويقوم على قافية مزدوجة أو ثنائية في البيت الشعري الواحد)، «بيام مشرق (رسالة الشرق) لشاعر الهند وباكستان محمد إقبال» وأصدره في عام 1951، وكتاب «جهار مقاله» (المقالات الأربع) للنظامي العروضي السمرقندي. كما ترجم من الأوردية إلى العربية في عام 1952 ديوان محمد إقبال الموسوم «ضرب الكليم».

ومن العناوين السابقة يتبين أن عزام كان رائداً للدراسات الفارسية، وباحثاً ومفكراً قدم للمكتبة العربية ولميادين العلم والمعرفة والثقافة طائفة متنوعة من الأبحاث في الأدب والتاريخ والتصوف تميزت جميعها بالعمق. والحقيقة أنه لا غرابة في ذلك فالرجل كان مطلعاً بعمق على الثقافة العربية والإسلامية، وخصوصاً مع إجادته للغات الأوروبية والشرقية.

كتب عنه وعن أخلاقه وخصاله الأديب والشاعر والمؤرخ المصري محمد رجب بيومي في موسوعته «النهضة الإسلامية في سير أعلامها» فقال: «لقد كان عبدالوهاب عزام مكافحاً أي مكافح، لم يتشدق بالثقافة والمنصب وأعلى الدرجات العلمية وأخصب المؤلفات الفكرية التي توّجت نضاله، ولكن خُلق الإسلام قد أكسبه تواضع الزاهدين وهدوء الباحثين، ولو شاء لضج وصخب ولأعانته ثقافته المتنوعة على أن يجهر بنبوغه فيعلن عن نفسه في تكبر واستعلاء، ولكن عزام قد درس وتعلم لتكون دراسته الخصيبة متعددة الأفنان تربية سلوكية تدعو إلى الخطة المثلى في دنيا الخلق كما كانت مشعة تمزق الحوالك في دنيا الظلمات».

وعن دوره في جامعة الملك سعود كتب المؤرخ السعودي الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ في ترجمته لعزام قائلاً ما مفاده أنه منذ إنشاء الجامعة دأب الرجل على تنظيم موسم ثقافي عام، يلقي فيه الأساتذة محاضرات ثقافية عامة، وكان هو نفسه رحمه الله لا يكتفي بحديث واحد في الموسم وإنما كان يتحدث مرتين أو ثلاثاً أو أكثر.

 

Email