لَمْلَمة أوراق !

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد رحلة في قيظ الحجاز اللاهب مشياً على الأقدام لأكثر من 100 كم، ثم تكذيب وسخرية وهو يدعو أهل الطائف لمدة عشرة أيام كاملة انتهت بأن أقاموا له مسيرة «رجم» بالحجارة في طُرُقاتها لمسافة خمسة كيلومترات حتى أخرجوه ودماؤه الشريفة صلى الله عليه وسلم قد ارتوت منها نعاله، فلما خرج وأقبل على مكّة حيث رؤوس الكفر ومن كذّبوه وعذّبوا أتباعه لأكثر من عشر سنين، بعث الله تعالى له ملك الجبال بمعيّة جبريل عليه السلام فقال: يا محمَّدُ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: «بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا» !

العظيم لا ينتقم، والكبير لا يحقد، وصاحب القلب الكبير لا يُضيع أيامه بحثاً عن انتصارات في معارك صغيرةٍ تافهة، لكنّه يبحث في الظُلْمة عن بارقة نور، وفي الأرض الجرداء عن نبتةٍ ما زالت تدبّ في أوراقها الحياة، ويتحمّل مرارة اليوم أملاً في غَدٍ أجمل، ويثق بأنّه بعد ضيق الحال سيأتي فرج الله لا محالة، وهكذا حدث مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فخرج من صُلْب الوليد بن المغيرة خالد بن الوليد سيف الله المسلول، ومن صُلب أبي جهل عكرمة فارس الإسلام وبطل الفتوحات، ومِن صُلب العاص بن وائل عمرو داهية العرب، ومن صُلب عقبة بن أبي معيط أربعة أبناء كلهم من خيرة الصحابة!

الحياة تأتي دوماً مليئة بالمفاجآت، حسنها وسيئها، الحسن منها لتثبيت القلب، والسيء منها ليتعلّم الإنسان دروساً لا يجدها في الأيام الجميلة، وكما أنّ من المفترض بالإنسان أن يكون متزناً في أموره، باحثاً عن الخير في كل إنسان مهما رأى من تعنته في وجه الحق، فكذلك يفترض به أن يكون قوياً بما فيه الكفاية لكيلا ينكسر عند أول مطب أو يتراجع بعد أول إخفاق، ولن نجد تجارب ناجحة بكل مستوياتها الدينية والأخلاقية والعملية والإنسانية كما هي عند أنبياء الله عليهم السلام !

أكرّر هذه الجزئية لأن ما يسوّق هي نماذج غربية ناجحة لكن على المستوى المادي البحت، وحيثما يمّمتَ وجدت كتباً ورسائل دكتوراه ومؤتمرات وورشات عمل ومقاطع فيديو تمجّد في هذه الشخصيات، ونحن لا نُعارِض ذاك، بل يُفترَض أن نأخذ بتلك المنهجيات الناجحة التي أوصلتها لمحطات عالية من النجاح، ولكن لا نصوّرهم وكأنهم قدوات إلا في ذلك الجزء العملي فقط، أمّا بقية الأمور الفكرية والعقدية والخُلُقية والاجتماعية فقد يكون مذبذباً فيها ويحمل من «الدويحات الحمرا» أكثر من شعر رأسه إنْ كان به شعر !

لذا فاختيار القدوات «المتكاملة» أمر ضروري لدفع أي مجتمع للخيرية المطلقة قدر الإمكان، فالأولى أن نتعلم حب الخير والرحمة بالناس من محمد صلى الله عليه وسلم بدلاً من ملياردير يشيع كل سنة أنّه تبرّع بكل أمواله للمشاريع الخيرية التي لا نرى منها شيئاً وفي أغلب الأحوال تكون ألعوبة للتملّص من دفع الضرائب، والأولى أن نتعلم حسن الإدارة من يوسف، والثبات على المبدأ من موسى، وأسس الجدل المنطقي من إبراهيم، والصبر من أيوب، واليقين بفرج الله من يعقوب، عليهم صلوات الله وسلامه.

نحتاج - وأقصد كل فردٍ منّا - للعمل بشكل حثيث لإعادة إحياء هذه القدوات العظيمة في حياتنا بعد أن هبّت الرياح شرقاً وغرباً بكل منحطٍ من السلوك ومنحرفٍ من الفكر، ولئن كانت هذه الرياح سابقاً تهب بهدوء، فإنّها اليوم تعصف بالدنيا عصفاً ولا يكاد يسلم أساس ثابت أمامها إلا وتحاول اقتلاعه، الأمر الذي يجعل البشرية أمام مفترق طُرُق تُدْفَع فيه إلى مسارٍ خطير يجعلها لا تبتعد إنْ لم تَفُق مستوى البهائم !

لنأمل الخير كما أمله محمد صلى الله عليه وسلم في الأرض البور، ولكن لنسعى جاهدين كما سعى لكي نُلَمْلِم ما اختلط من أوراق وما حُرِّف من مفاهيم وما ضُيّع من قيم، ولنحذر من أولئك الذين يسخرون من أي طرحٍ يكون للدين فيه صوت، فمَن لم يعرف طريق الله لن يُوَفَّق لطريق دنيا مهما ادّعى خلاف ذلك، فكل معركة مع الله خاسرة، كما قال سبحانه وقوله الحق دوماً: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾

 

* كاتب إماراتي

Email