ثمرة البدايات الجديدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أشد لحظات الألم التي تعترض المرء في عمله، لحظة الفراق أو «قرار تطفيشه». ولأن أساليب التطفيش عديدة، آخر الكي أو المواجهة، فإن الإنسان سيجد نفسه مضطراً لمغادرة بيئة العمل التي لطالما تفانى فيها. وينبع الألم من أن ذنبه الوحيد أنه قال كلمة حق أو التزم بالمهنية أو طبّق اللوائح والقوانين، فكان ذلك «القشة التي قصمت ظهر البعير». المشكلة ليست في قرار الاستغناء عن خدماتنا أو تطفيشنا، بل المعضلة الأساسية في أننا لم نتوقع قط أن يحدث ذلك في بيئات عمل، التي في الواقع لا يكتب لها الاستقرار. فالتغير سنة الحياة، والشللية مثل أمواج البحر ترتفع تارة وتهبط تارة أخرى. فضلاً عن المزاجية المقيتة التي تقرب من لا يستحقون المناصب، وتبعد من هم أهلاً لها.

أياً كانت أسباب قرار التخلي عنا يبقى أمامنا خيار التأقلم مع التغير في بيئات العمل الجديدة. وكم من شخص كانت بداياته الجديدة هبة من السماء عندما وجد من يفهمه، ويقدره، ويمنحه مطلق الصلاحيات فور ما اكتشفوا قدراته. وكم من فرد كانت أخطاؤه السابقة، فرصة ذهبية ليظهر بوجه وأداء جديد كلية عن وظيفته السابقة. فتخلى مثلاً عن المُعاركة الخاسرة، والملاسنات الحادة، والجدال العقيم، والنقد الجارح، والمشي بالنميمة، أو الوشاية، وغيرها فصارت بداياته أجمل وأروع.

وكم من شخص اكتشف أن التظاهر الزائف بالعمل لإيهام مسؤوله بجديته و«إنتاجيته»، كان أمراً مكشوفاً لدى الجميع. فالناس في بيئات العمل يدركون جيداً من يعمل ومن «يمارس التمثيل» بعطاء زائف. وينسى هؤلاء أننا في أمس الحاجة للعمل الجاد، لأن العمل في جوهره محاولة لتطوير قدراتنا ومهاراتنا وخبراتنا حتى إذا ما تبوأنا منصباً قيادياً تدفقت قدراتنا، وتجلت ثقتنا بأنفسنا. فكم من شخص عاش بدايات غير جادة في العمل فدفع ثمن ذلك طوال حياته عبر شعوره بالنقص.

ونعود إلى الصفحات الجديدة، فمهما استفحلت أخطاؤنا، قد تكون هي أسباب بداية أفضل. ذلك أن المرء حينما ينضم إلى بيئة عمل جديدة لديه فرصة القيام بعكس ما كان يمارس من أخطاء. ولحسن الحظ الزملاء الجدد لا يحملون تجاهنا أي أحكام مسبقة أو ذكريات سلبية. فهي صفحة جديدة معهم ندون فيها بسلوكنا المهني ما يستحق أن يشار إليه بالبنان. بعض الناس لا يفرق بين «كثرة الحديث عن العمل» والعمل نفسه. فمهما زعم المرء «شفهياً» من قدرات أو مهنية تبقى ضرورة أن يشاهد الزملاء ذلك في سلوكنا. فميادين العمل ليست منابر للمواعظ والتظاهر، بل اختبار حقيقي لأدائنا على أرض الواقع. والتحدي يكون أكبر لأن من حولنا هم في العادة خبراء في مجالاتهم، فلا تنطلي عليهم محاولات التظاهر.

ومن أهم ما يتعلمه المرء في البدايات الجديدة، التفريق بين المهام الشكلية والجوهرية. فالأمور الجوهرية هي التي تصب في صلب العمل وأهداف المؤسسة، وهي ما يشار إليها ببنان الإعجاب وتقدير الإدارة العليا والمسؤول المباشر. باختصار هناك من يعرف «من أين تؤكل الكتف» فيركز على المساهمة الجادة في تحقيق أهداف الإدارة الرئيسية، وهي عادة ما تقاس بمؤشرات الأداء KPIs التي بدأت تنتشر في المؤسسات العامة والخاصة. وهناك من ينشغل بالأمور الشكلية التي لا تكترث بها الإدارة العليا ولا يعبأ بها المسؤول المباشر.

خلاصة القول إنه مهما كانت سوداوية المشهد في وظائفنا السابقة، وأياً كانت مرارة الفراق أو التطفيش، قد يكون ذلك سبباً لانطلاقة جديدة تحلق بنا لآفاق أرحب من الأداء المهني الذي يشار إليه بالبنان.

 

Email