لماذا انتفض السريلانكيون ضد قيادة اختاروها بأنفسهم؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما حدث مؤخراً في سريلانكا من احتجاجات تفاقمت حتى وصلت إلى تمرد شعبي عارم أطاح بالسلطة الحاكمة، لا سابقة له في هذه البلاد الصغيرة المسالمة، بل لم يحدث بالسيناريو نفسه في أي مكان آخر في القارة الآسيوية، وإنْ حدثت وقائع مشابهة بسيناريوهات مختلفة في إيران ضد نظام الشاه عام 1979، وفي الفلبين ضد ديكتاتورها فرديناند ماركوس عام 1986، وفي إندونيسيا ضد ديكتاتورها سوهارتو عام 1998، وفي مملكة النيبال ضد ملكها بيريندرا عام 2006.

ففي استعراض لافت للغضب، وبعد أن بلغ السيل الزبى جوعاً وفساداً وتمييزاً، تجاهلت الآلاف المؤلفة من الجماهير المنهكة حظر التجوال وانتشار قوات الجيش والشرطة، واقتحمت القصر الرئاسي ومقر إقامة رئيس الحكومة في كولومبو، مطالبة برحيل قادة البلاد.

كان ذلك ردة فعل على قرارات عشوائية موجعة حاولت الحكومة من خلالها التغطية على فشلها في إدارة البلاد، ومنها إيقاف بيع الوقود للعامة، في عمل لم تقم به أي دولة منذ أزمة النفط العالمية في السبعينات، وعدم التعامل الجدي مع نقص الغذاء والمؤن والإمدادات الحيوية، وإغلاق المدارس لأسابيع طويلة متعاقبة، وتخفيض طاقة عمل الدوائر الحكومية.

ولعل ما زاد من غضب الجماهير واحتقانها هو فرار الرئيس غوتابايا راجاباكسا من البلاد في خضم الاحتجاج، ناهيك عن قيامه بتعيين رانيل ويكرماسينغه، من الحزب الوطني المتحد المعارض كرئيس مؤقت للحكومة، وإعلان الأخير حالة الطواريء في جميع أنحاء البلاد وإعطاء صلاحيات غير محدودة للجيش لاستعادة النظام بالقوة.

لم يتراجع السريلانكيون، ولم يخفهم إطلاق الرصاص واستخدام الغازات المسيلة للدموع، فواصلوا احتجاجاتهم وصبوا جام غضبهم على رئيس الحكومة المعين والذي انتخبه مجلس النواب مؤخراً رئيساً جديداً للبلاد، بسبب علاقته الوثيقة بأسرة راجاباكسا، من جهة، وتاريخه الطويل في عسكرة المجتمع من جهة أخرى، حيث تذكر المحتجون سنوات ترؤسه الحكومة من عام 1993 وحتى عام 1996 وتقلده مناصب هامة في حزبه الحاكم سابقاً، وما شاب تلك السنوات من توترات عرقية وأعمال قمع ضد الأقلية التاميلية، ناهيك عما هو معروف حول صلاته وتعاونه الوثيق مع قائد الجيش الحالي شافيندرا سيلفا المدرج على اللائحة الأمريكية السوداء بسبب دوره في مجزرة عام 2009 بحق التاميل.

والحقيقة هي أن المسؤولية، لجهة من أوصل البلاد إلى هكذا مأزق، تقع على عاتق السريلانكيين أنفسهم، وتحديداً المنتمين منهم إلى العرقية السنهالية البوذية الغالبة، لأنهم استخدموا أغلبيتهم العددية أثناء الانتخابات في الاقتراع لساسة مشكوك في كفاءتهم، وبالتالي أسهموا في فوز طبقة سياسية غير جديرة باعتلاء إدارة البلاد، كل مؤهلاتها أنها تعتنق الأيديولوجية البوذية السنهالية المناهضة للعرقية التاميلية.

وقد استخدمت هذه الطبقة السياسية التخويل الشعبي الممنوح لها، في بناء النفوذ واكتناز الثروات واستبعاد الأقليات من المناصب العامة وانتهاك حقوق الإنسان، ما أدى إلى تراكم المشاكل الناجمة عن سوء إدارة الاقتصاد، وصولاً إلى إفلاس البلاد وخواء الخزينة العامة.

أما ما ساعد هذه الطبقة السياسية لجهة الاستمرار في غيها وفسادها وسطوتها فهو العيب المتأصل في دستور البلاد منذ عام 1956، أي زمن رئيس الحكومة الأول سولومون باندرنيكا، حينما تمّ التصديق على مادة تمنح السنهاليين البوذيين موقع القوة الفاعلة الأولى في البلاد، فبدأت مذاك عملية تهميش الأقليات وإجبارها على الخروج من الوظائف والمسؤوليات العامة.

يقول أستاذ مادة التاريخ في جامعة سيدني الأسترالية نيرو كانداسامي، تعقيباً على أحداث سريلانكا، إن ما جعل السريلانكيين ينتفضون بهذا الشكل ضد ساستهم، ليس صحوة ضمير ورغبة في تحقيق العدالة والمساواة وطي صفحة التمييز ضد شركائهم في الوطن من الأقليات، وإنما مجرد وعي متأخر بخطأ ممارستهم للديمقراطية الانتخابية عززه فقرهم وجوعهم وبطالتهم وشعورهم بالحرمان النسبي وتأثرهم بانخفاض قيمة الروبية وارتفاع أسعار المواد الغذائية وانقطاع الكهرباء ونقص الوقود، مقابل ثراء ورفاهية النخب الأوليغارية الحاكمة.

ورغم أن كانداسامي حاول مقارنة انتفاضة السريلانكيين بانتفاضة الجماهير المصرية والتونسية إبان ما سمي بـ «الربيع العربي»، إلا أنه فشل بسبب اختلاف جذور المشكلة في سريلانكا عنها في مصر وتونس. وهو ما يؤكد أن لكل بلد خصائصه وظروفه المختلفة وميزته النسبية لجهة الانتقال من وضع إلى وضع آخر دون أكلاف عالية.

وجملة القول أن السريلانكيين بلغ بهم اليأس مبلغاً خطيراً، جعلهم ينتفضون ضد رئيس صوتوا له بأغلبية ساحقة (غوتابايا راجاباكسا)، وكانوا فخورين به لأنه لعب دوراً حاسماً في تحجيم الأقلية التاميلية وإنهاء تمردهم الطويل ضد السلطة المركزية، حينما كان قائداً للقوات المسلحة تحت إدارة شقيقه الأكبر الرئيس السابق ماهيندرا راجاباكسا. فهل تعلموا الدرس يا ترى؟ وهل ستكون خياراتهم الديمقراطية في المستقبل أكثر نضجاً ودقة؟

 

Email