في وداع شينزو آبي وخلفيات اغتياله الصادم

ت + ت - الحجم الطبيعي

يخضع امتلاك الأفراد والمجموعات للأسلحة في اليابان لرقابة وقيود مشددة، على العكس من بلدان أخرى، إلى حد أن الفريق الوطني للرماية لا يجد حرية في تمارينه، بل حتى القلة التي يُسمح لها بامتلاك البنادق الهوائية يجب عليها اجتياز اختبار تحريري وآخر عملي لإثبات أنه يجيد الرماية، ناهيك أن عليها الخضوع لتقييم الصحة العقلية واختبارات المخدرات وفحص السجل الجنائي وسجل علاقاتها الأسرية والعاطفية والاجتماعية.

إن هذه القيود المشددة هي التي جعلت اليابان واحدة من أكثر بلاد العالم أماناً، بدليل أنها طوال العقود الخمسة الماضية لم تشهد حوادث عنيفة صادمة ذات طابع سياسي سوى هجوم واحد بغاز السارين السام على قطار الأنفاق في طوكيو سنة 1995 شنته طائفة إرهابية صغيرة تدعى «أوم شينريكيو».

غير أن هذا لم يمنع اعتناق أناس مضطربين لأعمال عنف عشوائية ليست لها دوافع سياسية على غرار ما حدث عام 1990 حينما نجح شاب يميني في اغتيال زعيم الحزب الاشتراكي «إنجيرو أسانوما»، ثم حينما نجح رجل مختل عقلياً في العام نفسه في قتل وزير العمل «هيوسوكي نيوا»، وثالثاً حينما تمكن شخص يميني متطرف من قتل حاكم ناجازاكي «هيتوشي موتوشيما».

وفي عام 2002 طعن رجل يميني النائب عن الحزب الديمقراطي «كوكي إيشي» أمام منزله ما أدى إلى وفاته. إلى ذلك حدثت عدة عمليات اغتيال فاشلة منها: محاولة قتل رئيس الوزراء الأسبق «موريهيرو هوسوكاوا» عام 1994، ومحاولة اغتيال عمدة بلدة ميتاكي الصغيرة عام 1996.

ومن هنا كان اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، «شينزو أبي» في الثامن من يوليو الجاري حدثاً صادماً للكثيرين داخل اليابان وخارجها، خصوصاً وأن إطلاق النار عليه وقع خلال حملة لانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ، أي أثناء ممارسة الديمقراطية التي تفتخر بها اليابان في وسط جغرافي لا تعرف دوله ــ ما عدا كوريا الجنوبية وتايوان ــ هذه الممارسة الحضارية. ولعل ما ساعد المجرم على تنفيذ جريمته بنجاح هو أن الاحتياطات الأمنية إبان الحملات الانتخابية عادة ما تكون مخففة بسبب عدم وجود سوابق عنف فيها.

أما المفارقة فهي أن آبي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء ورئيس الحزب الديمقراطي الحر من عام 2006 إلى عام 2007، ثم مجدداً من عام 2012 إلى عام 2020 حينما استقال لأسباب صحية، تعرض جده لأمه «نوبوسوكا كيشي» الذي شغل منصب رئيس الوزراء من عام 1957 إلى 1960 لست محاولات طعن بالسكين عام 1960 من قبل جماعة يمينية، وذلك بعد فترة وجيزة من توقيعه معاهدة أمنية مختلف عليها مع الولايات المتحدة، لكنه نجا بأعجوبة لأن السكين لم يصل إلى شرايينه الرئيسية.

والغريب أيضاً أنه خلال عام 2000 تعرض منزل آبي ومكاتب أنصاره في مدينة شيمونوسيكي لهجوم بقنابل المولوتوف أكثر من مرة، وكان الجناة أعضاء من جماعة «ياكوزا» (كلمة تطلق على عموم المنظمات الإجرامية)، وقد قيل وقتها إن السبب هو رفض آبي دعم مرشح الجناة لرئاسية بلدية شيمونوسيكي عام 1999.

يرى بعض مراقبي ومحللي الشؤون اليابانية أنه، على الرغم من أن حادثة اغتيال آبي عمل فردي ارتكبه شخص مضطرب، إلا أنه يجب النظر إليه كعمل ذي دوافع سياسية، وإنْ نفى الجاني أن دافعه كان معتقدات آبي السياسية.

فالجاني الذي تمّ اعتقاله ويخضع الآن للتحقيق تبين أنه خدم في سلاح البحرية التابع لقوة الدفاع الذاتي ثلاث سنوات حتى عام 2005، وبالتالي ربما تأثر بخطاب المناوئين لسياسات آبي وحزبه الحاكم الداعية لإلغاء الدور السلمي للجيش أي إلغاء المواد التي تقيد اليابان لجهة بناء جيش وطني قوي.

والمعروف أن آبي لم ينجح خلال وجوده الطويل في السلطة في تحقيق هذا الهدف، لكنه تمكن من تبني سياسة خارجية واضحة، ونجح في رفع ميزانية الدفاع بشكل مطرد.

كما نجح في إعادة تفسير مواد الدستور الياباني لما بعد الحرب بطريقة تتيح للقوات اليابانية القيام بأعمال عسكرية خارج الحدود لمساعدة دولة حليفة أو بهدف المحافظة على السلم العالمي وحماية طرق إمدادات الطاقة من القراصنة والإرهابيين، أو لموازنة نفوذ الصين في منطقتي المحيط الهندي والمحيط الباسيفيكي، من خلال مناورات مشتركة مع الولايات المتحدة وأستراليا والهند، وهي الدول التي تشكل مع اليابان ما يُعرف بتحالف «كواد» الأمني، والذي كان آبي وراء فكرته.

لقد تعاطف اليابانيون مع زعيمهم المغدور كما لم يتعاطفوا من قبل مع أي من أسلافه. ولم ينعكس ذلك فقط في الحشود التي ودعته بالبكاء، وإنما أيضاً في نتائج الانتخابات النصفية لمجلس الشيوخ التي فاز فيها حزب آبي بأغلبية مريحة.

 

Email