قمة مرحلة النضج

ت + ت - الحجم الطبيعي

واضح وصريح لا يقبل التأويل ولا التحريف، هكذا جاء البيان الختامي لقمة جدة للأمن والتنمية، التي انعقدت يوم السبت الماضي بتركيبة سياسية وجغرافية، جمعت أهم الدول صاحبة القرار في منطقة الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية.

فالذين حاولوا الاصطياد في الأجواء الملبدة بالغبار المصطنع طاشت سهامهم في الفراغ البعيد، والذين حاولوا الاصطياد في المياه العكرة تقطعت خيوط صنانيرهم وخرجت من الماء فارغة لم تنل من الصيد حتى الطحالب الخضراء.

وذلك بعد أن أعلنها وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، صريحة خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في ختام القمة، قائلاً إنه لا يوجد أي شيء اسمه «ناتو عربي»، مؤكداً أن منظومة العمل العربي المشترك وصلت مرحلة النضج، قائلاً: «نعرف ما نريد ونعرف كيف نحققه.. لا ننتظر أي أحد ليحقق لنا احتياجاتنا».

هكذا أفسد قادة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومعهم مصر والأردن والعراق، على الذين ظلوا ينعقون قبل انعقاد القمة بضاعتهم، وقطعوا ألسنتهم التي ما انفكت تستثير عواطف الناس بخطاب غوغائي عفا عليه الزمن، ولم يعد صالحاً للاستهلاك بعد كل هذه السنوات من التعامل مع قضايا الأمة العربية، وبعد كل هذه الحروب التي خاضها العرب على مدى أكثر من عقود سبعة عجاف، خسرت الأمة خلالها الكثير من مساحات الأرض، وكسبت الكثير من التجربة والخبرة في التعامل مع الدول وقياداتها على اختلاف أحزابها وسياساتها وأجنداتها الظاهرة والخفية.

ما يلفت النظر في البيانات التي صدرت في جدة يوم السبت الماضي أن هناك أكثر من قمة قد عقدت في ذلك اليوم، فقد تنوعت بين بيانات مشتركة بين بعض الدول العربية والولايات المتحدة الأمريكية، وبيان مشترك لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والولايات المتحدة الأمريكية، وبيان ختامي لقمة جدة للأمن والتنمية شمل جميع الدول المشاركة فيها.

وإذا كان البعض يعتقد أن هذا قد حدث في يوم واحد فقط فهو مخطئ، أكد هذا وزير الخارجية السعودي في المؤتمر الصحفي عندما قال إن الاتفاقيات التي تم توقيعها مع الولايات المتحدة الأمريكية لم تأت بين يوم وليلة، وإنما استغرقت شهوراً.

إن من يقرأ بنود البيان الختامي الإحدى والعشرين لقمة جدة للأمن والتنمية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والأردن ومصر والعراق والولايات المتحدة الأمريكية يدرك أنها لم تكن قمة إقليمية ضيقة، بقدر ما كانت قمة لامست هموم الأمة العربية وقضاياها المشتركة، حتى تلك التي تمس دولاً لم تشارك في القمة، ومنها اليمن وسوريا وليبيا ولبنان والسودان، التي أُفرِد لكل دولة منها بند خاص، بهدف تحقيق الاستقرار في هذه الدول التي لكل منها أزماتها ومشاكلها المختلفة عن الأخرى، حاثة على تقديم الدعم لها كي تتجاوز أزماتها وتعود إلى الصف العربي قوية وفاعلة كما كانت.

وكان للحرب الدائرة في أوكرانيا بند خاص بها، تعامل معها من ناحية احترام القوانين والمواثيق الدولية، وإنهاء المعاناة الإنسانية، ودعم اللاجئين والمتضررين من الحرب، ودعم الأمن الغذائي للدول المتضررة. وبالنهج نفسه تعامل البيان الختامي مع أفغانستان، داعياً إلى حصول الشعب الأفغاني بجميع أطيافه على حقوقهم وحرياتهم الأساسية، خاصة في التعليم والرعاية الصحية.

كثيرة هي الأسماء التي يمكن أن تُطلق على هذه القمة، التي يحلو للبعض أن يقول إنها قد تأخرت قليلاً أو كثيراً، فهناك من أطلق عليها قمة الانفراج، وهناك من أطلق عليها قمة تصحيح المسار، ويُقصد به تصحيح مسار علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع الدول العربية، ودول مجلس التعاون الخليجي على وجه الخصوص، بعد فترة من الجفاء بين الديمقراطيين، بدأت في عهد الرئيس باراك أوباما واستُكمِلت في عهد الرئيس جو بايدن، وبين هذه الدول التي برزت فيها قيادات شابة جديدة، تقود المرحلة باقتدار شديد، وبرؤى مختلفة تتفق مع المتغيرات التي حدثت خلال العقود الماضية، ومع التوازنات الجديدة التي طرأت على مستوى العلاقات الدولية، ومع الأزمات التي نشأت خلال العقدين الأخيرين، وهي أزمات تتنوع بين السياسية والعسكرية والصحية والغذائية والمتعلق منها بالطاقة وغيرها. ولهذا نستطيع أن نطلق على هذه القمة اسم «قمة مرحلة النضج».

هذه القراءة السريعة للبيانات التي صدرت عن قمة جدة تجعل من هذه القمة محطة مهمة في تاريخ هذه المنطقة الحيوية من العالم، وتخرس كل الأصوات التي حاولت أن تضع لهذه القمة أجندة واحدة فقط، فخاب مسعاها، وخرجت القمة بنتائج محبطة لآمالها.

 

Email