«شخصيات تحت المجهر»

صالح المزيني.. أول خليجي يترأس قناة تلفزيونية

ت + ت - الحجم الطبيعي

دخل صالح علي سليمان إبراهيم المزيني تاريخ الإعلام المرئي، من حيث لم يخطط أو يخطر على باله، فهذا العصامي الذي ولد، وبدأ يتلمس الطريق في مدينة بريدة القصيمية بأواسط نجد عام 1933م، ابن لعائلة متوسطة الحال، صار بعد أن كبر، وتعلم اسماً يشار إليه بالبنان كونه ترأس أول صرح إعلامي مرئي ناطق بالعربية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، بعد سنوات قليلة من إطلاق بثه في 16 سبتمبر 1957، والإشارة هنا إلى محطة تلفزيون أرامكو من الظهران، التي تعد ثاني قناة تلفزيونية عربية من بعد محطة تلفزيون بغداد، التي بدأت البث عام 1956.

طبقاً لما نشره علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في مجلة العرب (عدد فبراير/‏ مارس 1983)، فإن أسرة المزيني المنتشرة في مناطق حائل والقصيم والمجمعة والرياض والحجاز والمنطقة الشرقية من السعودية، علاوة على دولة الكويت يرجع جدها «عبدالله بن نايف بن ضيف الله بن غازي بن محسن السرباتي بن مسعود المزيني» إلى قبيلة مزينة، التي يعود نسبها إلى بني مسعود من حرب، وأن هذا الجد أصيب أثناء إحدى الغارات، فبقي طريحاً تحت العلاج في بلدة الكهفة بأطراف القصيم الشمالية التابعة الآن من الناحية الإدارية لمنطقة حائل، فلما شفي تزوج إحدى الفتيات، التي عرفها أثناء العلاج وكانت من أسرة غير معروفة. وأضاف الجاسر: إن «من هذا الرجل نشأت الأسرة المزينية، وبالتالي فهي ذات أصول صحيحة»، وقد أكد هذا الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن حمود التويجري في كتابه «الإفادات عن ما في تراجم علماء نجد لابن بسام من التنبيهات».

وبالعودة إلى الأستاذ صالح بن علي المزيني (محور هذه المادة) نجد أنه تعلم في كتاتيب بريدة التقليدية، ثم في مدرستها الابتدائية الوحيدة آنذاك، التي كانت تعرف بالمدرسة الأميرية، وربما بسبب عشقه لنيل تعليم أجود في بيئة أفضل، أو بسبب تردد والده على الحجاز للتجارة، انتقل إلى مكة المكرمة التي أنهى بها مرحلتي تعليمه الإعدادي فالثانوي، وبتخرجه من الثانوية وجد أبواب الوظيفة مشرعة أمامه، لكن وظائف تلك الأيام لخريجي الثانوية من أمثاله لم تكن سوى العمل مدرساً في مدارس وزارة المعارف السعودية، خصوصاً مع ما كان للمدرس آنذاك من هيبة ومكانة اجتماعية ومستوى معيشي لائق.

عمل المزيني في التدريس لبعض الوقت، لكن يبدو أن طموحه الشخصي كان أكبر من أن يظل موظفاً في سلك التدريس، فانتقل في مطلع الخمسينيات من وزارة المعارف للعمل مع وزارة الدفاع السعودية، التي عينته في سلاح الجو بقاعدة الظهران الحربية، حيث شغل وظيفة مدير مكتب قائد القاعدة. شكل هذا الحدث نقلة نوعية في حياته، ذلك أن الانتقال إلى الظهران المختلفة آنذاك عن بقية المناطق السعودية لجهة كثرة الفرص الوظيفية وجودة التعليم ومستوى الحياة الاجتماعية وسط مؤثرات صناعة النفط الناشئة، وفي خضم عملية التنمية والتحديث والعصرنة، لعب دوراً كبيراً في مسيرته التالية.

في عام 1959 استقال المزيني من وزارة الدفاع وانتقل للعمل لدى شركة أرامكو النفطية بمقرها الرئيسي في الظهران، وهناك أتيحت له فرص تعلم أشياء جديدة كثيرة ومثيرة حولته في غضون فترة قصيرة إلى شخصية آسرة، ومختلفة علماً وسلوكاً وشغفاً وطموحاً وعلاقات وخبرة، وكان قبل ذلك بنحو ثلاث سنوات قد تعرف إبان عمله في قاعدة الظهران على زميله علي حسين الفداغ، أحد أبناء بلدة الغاط النجدية ممن هاجرت أسرهم من نجد إلى الزبير هرباً من القحط في الأزمان السالفة، فتوثقت علاقته به إلى درجة أن طلب منه تزويجه أخته المقيمة في الزبير، وهكذا رحل المزيني في عام 1956 وهو في الثالثة والعشرين إلى العراق، حيث اقترن هناك بالسيدة مريم حسين الفداغ، ذات التسعة عشر ربيعاً، التي ستصبح أم أبنائه الأربعة، وعاد بها إلى الظهران.

بدأ المزيني عمله الجديد مع أرامكو في سبتمبر 1959 موظفاً في قسم الشؤون العامة والخدمات التابع لدائرة العلاقات العامة، حيث تشبع بأجواء العمل الحديثة وأنظمتها الصارمة وأسس علاقات جيدة مع رؤسائه ومرؤوسيه الأجانب والعرب، وصمم أن يرتقي بنفسه من خلال العمل الجاد والانكباب على التعليم والتدريب المتواصلين، وهو ما لفت أنظار رؤسائه إليه سريعاً، فأمطروه بالترقيات المستحقة المتتالية حتى صارت عبارة «من كبار موظفي أرامكو» لازمة لاسمه، خصوصاً بعد تعيينه في تلك الفترة من حياته مشرفاً على نشرة قافلة الزيت الأسبوعية.

في عام 1963 ابتعثته أرامكو إلى بيروت في منحة تعليمية على نفقتها للدراسة في الجامعة الأمريكية لمدة سنة واحدة. وقد جاء في خبر عن سفره أن المزيني «سيدرس أثناء التحاقه بالجامعة الأمريكية ببيروت الأدب العربي والإنجليزي، كما سيتلقى دروساً نظرية وعملية في فن الصحافة، إذ إنه سيخصص بضع ساعات كل يوم لمزاولة الأعمال الصحفية في بعض دور الصحافة اللبنانية».

ولم يمض سوى وقت قصير بعد عودته من بيروت، إلا وأرامكو تبتعثه إلى الخارج مجدداً، لكن هذه المرة إلى جامعة تكساس الأمريكية، ليبدأ فيها كورسات دراسية خاصة بإدارة التلفزيون والإنتاج البرامجي وفنون الاتصالات، تتخللها دروس عملية لمدة أربعة أشهر مع محطة راديو وتلفزيون KLRN بمدينة أوستن في فنون إنتاج وإخراج الأخبار، علماً أنه أنهى رحلته التعليمية هذه بنجاح وعاد إلى وطنه في مارس 1964م، والمؤكد أن أرامكو لم تدعه يواصل الدراسة في بيروت آنذاك وقررت إرساله إلى تكساس، إلا لأن الكليات الخاصة بعلوم التلفزيون لم تكن متوافرة آنذاك في لبنان، الذي لم يعرف البث التلفزيوني إلا في فترة لاحقة لبث تلفزيون أرامكو.

وإبان عمله في أرامكو تقلب المزيني في وظائف مختلفة وسط تقدير زملائه له في مختلف المواقع، فإلى جانب ما ذكرناه آنفاً تم تعيينه ممثلاً لإدارة العلاقات العامة التابعة لأرامكو في العاصمة الرياض، وشغل وظيفة محرر ثم مشرف على نشرة قافلة الزيت الأسبوعية، غير أن المنصب الأبرز التي تولاه بدأ بعد عودته المظفرة من الولايات المتحدة، جاء بعد قرار أرامكو بترقيته بدءاً من أكتوبر عام 1964 من منصب نائب رئيس قسم التلفزيون والراديو في إدارة العلاقات العامة للشركة إلى منصب رئيس لذات القسم خلفاً للأمريكي «جي. في. فلرتون»، وبصفته تلك شمر الرجل عن سواعده ليدير «محطة تلفزيون الموجة رقم 2 من الظهران» بروح المخرج والمنتج والمذيع والإداري والخبير الإعلامي المكتسب لخبرات ثرية من دروسه النظرية والعملية في لبنان والولايات المتحدة الأمريكية، فحقق النجاح تلو النجاح، وغرس اسمه في قلوب أجيال من الذين تماهوا مع برامج المحطة الترفيهية والتثقيفية والتوعوية الهادفة، قبل أن يصبح اسمه مخلداً في تاريخ المنطقة كلها كونه أول مواطن يقود ويشرف على جهاز الإعلام المرئي الأول. ويمكن القول: إن واحداً من أسباب نجاحات المزيني في قيادة محطة تلفزيون أرامكو، عدا عشقه لوظيفته وانضباطه المهني ودراسته النظرية والعملية وحرصه على العمل بروح الفريق الواحد، هو أنه التحق بأرامكو بعد عامين فقط من إطلاق البث التلفزيوني، فعاصر وراقب تلك المحطة التلفزيونية الأثيرة وبرامجها وما كان ينقصها، فعمل جاهداً على وضع خطط برامجية مبتكرة، للارتقاء بها وسد كل نقص.

أخبرتني ابنته الوحيدة في حوار هاتفي أن والدها لم يكن يسعد، وسط أعباء العمل وكثرة المسؤوليات وزحمة الاتصالات، إلا بهوايات ثلاث كان يتصدرها البحر والصيد، ثم القراءة مع تدخين الغليون، فالاستغراق في سماع أغاني السيدة أم كلثوم، كما أخبرتني أن لوالدها أخاً يدعى «أحمد علي المزيني» يقيم في الرياض، وهو متقاعد من الجيش السعودي برتبة لواء، وأخاً آخر يدعى «أحمد علي المزيني» سبق أن عمل في الأمانة العامة لبلدية الدمام، وكان له أخت تدعى «منيرة المزيني».

المحزن أن المزيني لم يعش طويلاً، وإنْ كان قد عاش حتى إغلاق قناة الموجة 2 وإسدال الستار على تاريخها العبق مع بدء بث التلفزيون السعودي الرسمي في عام 1970، فقد انتقل رحمه الله إلى جوار ربه في عام 1975، وهو لم يتجاوز سن الثانية والأربعين، مخلفاً وراءه سيرة عطرة وذكرى طيبة لدى كل من تعامل معه أو زامله عن كثب، وابنيه علي وعادل اللذين حرص على تعليمهما تعليماً جيداً منذ صباهما في المدارس الخاصة في لبنان وابن ثالث كان وقتها صغيراً هو عبدالعزيز صالح المزيني، علاوة على ابنته الأنيقة المثقفة «مي صالح المزيني»، التي ورثت الكثير من صفات والدها لجهة الدأب والإرادة وسبر أغوار التحديات بشجاعة. فقد التحقت مثل والدها بشركة أرامكو، وتسلقت سلالمها الوظيفية بثقة، وأسست وترأست المركز العربي لتمكين المرأة «نصف» وهو مؤسسة اجتماعية تكرس جهودها لتمكين المرأة السعودية والعربية، عبر تقديم كل ما يسهم في نموها المعرفي والمهني والقيادي ومساعدتها للمشاركة في اقتصاد وطنها وإدارة مشاريعها الخاصة.

Email