جدل الحرب والعولمة.. أوكرانيا نموذجاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تقع حرب ساخنة بين قوتين أو أكثر في نطاق جغرافي اجتماعي بعينه، من دون أن تواكبها عاجلاً، ثم تتخلف عنها في أجل لاحق قريب أو بعيد نسبياً، توابع وأصداء متعددة السمات والقسمات والتأثيرات في نطاقات أخرى.

هذا يعني أن نيران الحرب، أي حرب، غالباً لا تحرق مواضعها فقط، وإنما تصل بلظاها وحممها وتداعياتها المادية أو المعنوية أو كليهما، إلى مواضع ومواطن ربما لم تكن ضمن حسابات أطرافها المباشرين ولا جالت بخواطرهم.

تتباين حجوم تأثيرات الحروب وانعكاساتها وفقاً لمحددات كثيرة، قد يكون من أهمها: موقع الأطراف المنغمسة فيها على سلمي المكان والمكانة الدوليين، وطبيعة القضايا الخلافية، التي أدت للاشتباك. ومستوى التداخل أوالتشبيك الحاصل بين هذه القضايا وأطرافها المباشرين وبين مصالح قوى أخرى بالجوارين القريب والبعيد، وأنماط ونوعية التحالفات القائمة بين فرقاء الحرب وبين الآخرين في المشهدين الإقليمي والدولي.

ونحسب أن سياقات أو مستويات التطور التقني، وبخاصة لجهة استحواذ المتحاربين على أدوات القتال وبقية عناصر القوة الشاملة، فضلاً عن سرعة التواصل والاتصال وتشابك المصالح على كل الصعد، كان لها وما زال دور حاسم في تعيين المديات الجغرافية، أو اللوجستية إن أراد البعض، التي تنحصر فيها أو تستطرد إليها الحروب.

في ضوء هذه التعميمات، وما يدور في إطارها من تفصيلات ليس هنا موضع التوسع حولها، لنا أن نلاحظ ونستذكر كيف كانت حروب الأوروبيين قابلة للانتشار من داخل قارتهم إلى مساحات متفاوتة في العوالم الأبعد، وكيف أن كوكبنا لم يعرف مفهوم الحروب العالمية إلا بناء على هذه الخاصية أو الموضوعة.

نود القول إنه تراكمت وتلاقت لدى القارة العجوز، كل المعطيات اللازمة لتحول الحروب البينية إلى مجالات وبيئات خارجية، لم يكن لمعظمها ناقة فيها ولا جمل، وحدث أن تأثرت بهذا التحول المنكود ومخرجاته السلبية أمم وشعوب لم يكن لدى بعضها علم بمن يقاتل من ولماذا؟

خلال الخمسين عاماً الأولى من القرن الماضي، اكتوى العالم بأسره من تبعات تمدد حروب الأوروبيين، أو قوى الشمال المتقدم بعامة، في جهات الدنيا الأربع، ولا مبالغة في الاعتقاد بأن عالمنا برمته ما زال يعاني، بشكل أو آخر، من جرائر هذه الحقيقة. من شأن استحضار هذا الدرس التاريخي اليوم، إثارة الشكوك وبث المخاوف إزاء احتمال تكراريته والانتكاس إليه. فرب قائل، ولديه كل الحق، بأن أقوياء «الحضارة الغربية»، أقحموا خلقا كثيرين في حروبهم، حتى صارت عالمية، حين كانت مظاهر العولمة والتشابك أدنى منزلة وأقل بروزاً وعمقاً، فكيف يكون الحال في وقتنا الراهن، الذي تعولم فيه تقريباً كل شيء على ظهر الأرض؟!

موقع ميدان الحرب الأوكرانية، ومكانة وإمكانات القوى المنغمسة فيها بالأصالة والوكالة، ونوعية الاصطفافات والتحالفات القائمة في زمنها، وما يمكن أن يستحدث على ضفافها داخل أوروبا وخارجها، واستسهال بعض أطرافها للحديث عن عدم استبعاد استخدام أسلحة الدمار الشامل، إذا ما تعرضت مصالحهم الوجودية للخطر، وتوقع استطالة أمدها واستدراج أطراف أخرى إلى معمعتها، وتداول أفكار سوداوية على خلفيتها من قبيل إمكانية اندلاع الحرب العالمية الثالثة ونهاية العالم. هذه الوقائع ونحوها، تحمل نذر الشؤم للخلق أجمعين.

بعض أكثر الشواهد على هذه النذر يتصل بقوة وسرعة حضور ونمو مظاهر انتشار تأثيرات هذه الحرب إقليمياً وقارياً وعالمياً، وبعيداً عن التفاصيل، لا يصعب رصد سلسلة المعاناة والأزمات والأضرار ذات الطبيعة الاقتصادية، التي أحكمت قبضتها على هذه النطاقات في وقت قياسي جراء هذه الحرب. يقول صندوق النقد الدولي: إن «حرب أوكرانيا وجهت عموماً ضربة قوية للاقتصاد العالمي، فقد تباطأ النمو وارتفعت أسعار السلع ولا سيما تلك التي تسهم فيها روسيا وأوكرانيا بقسط كبير في الأسواق الدولية كالنفط والغاز والقمح، وزادت معدلات التضخم، وتآكلت قيمة الدخول وضعف الطلب، وتراجعت ثقة مجتمع الأعمال، وزاد شعور المستثمرين بعدم اليقين مما حفزهم على الخروج من الأسواق الصاعدة. وبالجوار اللصيق لميدان الحرب يلاحظ تدفق اللاجئين وانقطعت سبل التجارة والإمداد وتحويلات العاملين في الخارج».

هذا بلاغ موجز عن كوارث حرب أوكرانيا بين يدي جانب واحد من جوانب العلاقات الدولية، هو حركة الاقتصاد، وذلك خلال أربعة أشهر فقط. بلاغ يكفي للإيحاء بأننا إزاء نموذج يحمل مذاق الحروب «العالمية»، وذلك على الرغم من التحفظ والتحسب من وسمه بهذا الوصف المقبض حتى الآن.

Email