في فرنسا.. مرحلة انتقالية في كل الحالات

ت + ت - الحجم الطبيعي

طوت أمس الانتخابات التشريعية الفرنسية جولتها الثانية وسط نتائج أولية بعدم تمكّن الرئيس إيمانويل ماكرون من الحصول على أغلبية مطلقة أو حتى نسبية تمكّنه من الحُكم، وذات الشيء ينطبق على معارضي الرئيس الفرنسي، حتى أنّ الحديث كثُر عن احتمال أن تعيش فرنسا عملية تعايش بين حكومة تنتمي إلى مرجعيات سياسية يسارية ورئيس اختار أن يتموقع في وسط المشهد السياسي والحزبي، وذلك في حال فوز اليسار بزعامة جون لوك ميلونشون بالأغلبية في هذا الاستحقاق الانتخابي التشريعي.

وبصرف النظر عن النتائج التي أُعلنت تباعاً الليلة الماضية فإنّ المشهد البرلماني الفرنسي للمدّة الرئاسية المقبلة سيكون مختلفاً اختلافاً جذرياً عن سابقه، حيث لن يكون البرلمان مجرّد «صندوق بريد» يمرّر من خلاله الرئيس مشاريع قوانينه وبرامجه السياسية مثلما هو الحال في المدة الرئاسية السابقة.

وتشير كل الدلائل إلى أن المجلس النيابي المقبل سيكون مجالاً لتعايش أغلبية حاكمة مع وجود معارضة قويّة، ومهما كان اللون السياسي الطاغي على البرلمان، فإنّ هذه المعارضة القادمة ستكون عامل ضغط كبيراً على الحكومة، ولن تكتفي بمجرّد تسجيل الحضور والموقف، وهو ما يدفع إلى القول بأنّ الشرط الأساسي للقيام بهذا الضغط هو الالتقاء على الحدّ الأدنى البرامجي بما يرجّح فرضية أنّ المرحلة المقبلة هي بالأساس مرحلة العمل الجبهوي مهما كان الموقع داخل السلطة أو خارجها.

وسواءً تعلّق الأمر بالحكومة أو بالمعارضة، فإنّ تفتّت المشهد الحزبي التقليدي يجعل من المستحيل على أيّ حزب أن يحكم أو أن يعارض بصفة منفردة، وأنّ المشهد يتّجه بالتالي إلى ضرورة القيام بتحالفات من أجل الحُكم أو من أجل بناء معارضة جدّية قادرة أن تكون البديل في الوقت المناسب.

ولعلّ المعضلة الأساسية هي أنّ الحكومة الفرنسية المقبلة ستكون ضعيفة مهما كان اللون السياسي المهيمن عليها، وأسباب ذلك عديدة ومتنوّعة، منها ما يتعلّق بنتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية الحالية، فيما تكمن الأسباب الأخرى في الأزمة الاقتصادية والمناخ الإقليمي والدولي العام،

فهي من جهة، هي المرّة الأولى في تاريخ فرنسا أن ينجح رئيس فرنسي بضعف كبير في نسبة الثقة لم تتجاوز الـ26 في المئة في الدور الأول للاستحقاق الانتخابي الرئاسي، وثانياً هي انتخابات تمّت في ضوء انقسام مجتمعي عميق في فرنسا تجسّد بالخصوص في حركة «السترات الصفراء»، ويضاف إلى ذلك أنّ الاستحقاق الانتخابي التشريعي الحالي يتّجه نحو عدم إفراز أغلبية مريحة للحُكم، ممّا سيدفع الفريق الحاكم إلى تقديم تنازلات مؤلمة في بعض الأحيان من أجل بناء تحالف قادر على ممارسة هذا الحكم والاستمرار فيه.

ومن جهة ثانية، فإنّ المناخ السياسي الدولي العام هو مناخ أزمة عميقة، وينبئ بتحوّلات جيوسياسية عميقة، خصوصاً بعد الأزمة الروسية الأوكرانية التي «ستستمر لسنوات مقبلة»، كما صرّح بذلك أمس الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.

هي إذن حكومات ضعيفة في كلّ الأحوال، وستكون مجبرة على توسيع قاعدة تحالفها في كل مرة تحتاج إلى تصويت داخل البرلمان، وهو ما سيُضعف بالضرورة هذه الحكومات ويجعلها رهينة مواقف الأحزاب الأخرى التي قد لا تتّفق معها في الأهداف والبرامج، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأنّ المرحلة المقبلة ستكون صعبة على من يحكم، وهي ستكون مرحلة وقتية.

وقد بدأ يتّضح ويتأكّد أن المشهد السياسي والحزبي خلال هذه المرحلة الانتقالية في فرنسا سيكون مسرحاً لتغييرات جذرية حاملة تحالفات جديدة، تكتّل اليسار بزعامة غير متوقّعة لجون لوك ميلونشون، وآخر للوسط بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، وكتلة ثالثة لليمين المتطرف يتنازع زعامتها كلّ من مارين لوبان وإيريك زيمور.

والأكيد أنّ ما كان «بشّر» به ماكرون قبل مدّة رئاسته السابقة من أنّ دور الأحزاب ولّى وانقضى، وكذلك ما كان يُعرف بالتناقص بين اليمين واليسار أضحى من الماضي، تبيّن لاحقاً عدم صحته، لأن الأحزاب التي اندثرت أو تكاد من المشهد الحزبي هي الأحزاب التقليدية مقابل ولادة أحزاب جديدة وتحالفات مستحدثة أساسها بقي ويبقى هو وجود الأحزاب قديمها وجديدها.

والدرس من تطوّرات الأحداث في فرنسا وفي عدد من الدول الأخرى، هو أنّ الديمقراطية الليبرالية لا تعيش ولا تستمر سوى بوجود الأحزاب، وأن النظام السياسي المقام على التمثيلية هو الموديل المناسب للمنظومة الديمقراطية، والبقية أكّدت التجارب التاريخية وتجارب الشعوب والأمم أنها إلى زوال.

 

* كاتب تونسي

Email