تطور النظام العالمي (1)

ت + ت - الحجم الطبيعي

نتحدث بتلقائية عن النظام الدولي دون أن نعي أُرُومته. لنتعرف على النظام الدولي والذي دشن عصر الحداثة، علينا أن نتعرف على ما سبق النظام العالمي.

تطور النظام العالمي من نظام إمبراطوريات جمعت مكونات طائفية وإثنية. وقد سيطر هذا النظام على جميع أصقاع المعمورة تقريباً.

وكانت هذه الكيانات في صراع ديني وطائفي لم تبق ولم تذر. وبدأت إرهاصات النظام الدولي تتشكل منذئذ وبعد اتفاقية صلح وستفاليا في العام 1648 والتي أنهت الصراع الديني والطائفي وأرست قواعد الدولة-الأمة. بمعنى أن الدولة تمارس سيادتها الوطنية على شعبها دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وإن كانت هناك علاقة طائفية بمكونات هذه الدول.

لم تنهر الإمبراطوريات كلياً، كما لم تنته الصراعات نهائياً، ولكن شرع النظام الدولي في التبلور المكون من الدولة-الأمة، وصارت الصراعات تصدر من أوروبا إلى العالم الجديد، وخاصة بين بريطانيا وفرنسا واللتين خاضتا حرب السبع سنوات بين 1756 - 1763. ونتج عن هذه تهيئة لبروز «توازن القوة» بين الدول الأوروبية والتي شكلت نظاماً أوروبياً مستقراً إلى حد ما، رغم الخلافات والصراعات، وخرج من رحمها أسس قانونية لتنظيم العلاقات بين القوى الأوروبية.

ولكن الثورة الفرنسية في العام 1789 والسعي لنشر مبادئها أدت إلى اضطراب في النظام السياسي الأوروبي. وكانت محاولات نابليون للتوسع وما تبعها من الحروب النابليونية. هبت القوى الأوروبية حينها إلى إعادة التوازن للنظام السياسي وتحجيم طموحات نابليون التوسعية. ولقي نابليون مصيره المحتوم في واترلو في 1815 والتي دشنت عصراً جديداً في أوروبا؛ عصر ما بعد مؤتمر فيينا.

عقد مؤتمر فيينا لإعادة التوازن للنظام الأوروبي بعد الحروب النابليونية، ونتج عن هذا كله ما عرف بالوفاق الأوروبي، وبروز أوروبا كمركز للنظام الدولي. وقد سيطرت القوى الكبرى الأوروبية — بريطانيا والنمسا وروسيا وبروسيا (ألمانيا لاحقاً) — على هذا النظام في توازن دقيق أبقى على السلام لمدة قرن من الزمن.

ولم تكن الأوضاع المستقرة في أوروبا بِمَنْأى عن بعض التغيرات الكبرى، ففي القرن التاسع عشر شهدت القارة العجوز ثورات «ربيع الأمم» في 1848، والتي زعزعت استقرار كثير من الأنظمة. كما شهد هذا القرن بروز عصر القوميات، ومنها توحيد إيطاليا وألمانيا في العام 1871. كما أن بروز بروسيا كقوة قارية أدى إلى نزاع مسلح مع فرنسا، فيما عرف بالحرب البروسية-الفرنسية.

ومن التطورات المهمة والمؤثرة على تطور النظام الدولي، بروز الولايات المتحدة كلاعب دولي، حيث أوضحت هذه القوة الجديدة تصديها إلى أي نفوذ أوروبي في الأمريكيتين أو ما عرف بمبدأ مونرو. وشهد القرن الثورة الصناعية والتي أحدثت تغيرات عميقة في المجتمعات الأوروبية، وفتحت شهية القوى الأوروبية إلى التوسع الاستعماري للحصول على المواد الخام والأسواق الواسعة.

وبدلاً من الصراع في أوروبا، أصبح التوسع والتنافس الاستعماري سيد الموقف. وكان مؤتمر برلين (1884) لتنظيم التدافع على أفريقيا. والمحصلة النهائية قبل الحرب العظمى أن القوى الأوروبية والولايات المتحدة واليابان أضحت القوى الفاعلة في النظام الدولي، تتبعها مستعمرات فيما عرف لاحقاً بدول العالم الثالث.

وتبع ذلك بروز نظام دولي تراتبي أصبحت فيه القوى الغربية — الأوروبية والأمريكية لاحقاً— تتصدر دول العالم ليس عسكرياً فحسب، بل أيضا اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. وأصبحت الدول الأخرى إما ترزح تحت الحكم الاستعماري الأوروبي أو بعدئذ تابعة للهيمنة الغربية. وأصبحت الدول الغربية منتجة للسلع المصنعة ذات القيمة المضافة العالية وأصبحت الدول الأخرى منتجة للسلع الأولية أو الخام للصناعات الغربية وهي ذات مردود منخفض. ومنها نشأت الفوارق الكبيرة بين هذه الدول إلى يومنا هذا. وللحديث بقية إن شاء الله.

Email