المدينة الفاضلة غاية تُطلب ولا تُدرَك

ت + ت - الحجم الطبيعي

انطلقت في تونس أعمال «الحوار الوطني»، بمشاركة 42 شخصية وطنية، وفي غياب تامّ للاتحاد العام التونسي للشّغل، وكذلك أكثر الأحزاب شعبية في تونس «الدستوري الحرّ»، الذي تتزعّمه عبير موسي، وحُدّدت لهذا الحوار مهمّة الوصول إلى رسم خطّة تنموية شاملة، وإعطاء تصوّرات للـ 40 سنة القادمة، وذلك خلال 72 ساعة.

ورغم أنّ أغلب المشاركين أكّدوا أنّ هذا الحوار غير معلوم النتائج مسبقاً، كما يتمّ الترويج لذلك، إلّا أنّ استعجال الأمور واختصار الآجال وتغييب الأحزاب، أغلب القوى الوطنية والمدنية، وكذلك الحديث عن اعتماد مخرجات «الاستشارة الوطنية» - التي ترى أغلب القوى السياسية والمجتمعية أنّها فاشلة - كلّ هذا يؤشّر إلى أنّ هذا الحوار الذي انطلقت أعماله، نتائجه واضحة وجلية، وأنّ هذا الحوار هو شكل من أشكال «التزويق الديمقراطي»، ولن يكون بحال مرحلة تأسيسية لدولة ديمقراطية، تسود فيها قيم الحرية والتضامن، من أجل تحقيق كرامة المواطن.

وقد تزامن انطلاق «الحوار الوطني»، مع الإعلان عن إضراب عام في الوظيفة العمومية، يعتزم تنفيذه الاتحاد العام التونسي للشّغل، وكذلك إضراب عام للمرفق القضائي، لمدّة أسبوع قابل للتجديد، ابتداء من اليوم الاثنين، وذلك احتجاجاً على قرار عزل 57 قاضياً، لأسباب متعلّقة بـ «الفساد».

وإذا كانت محاولات «النهضة الإخوانية» للإطاحة بمشروع الرئيس التونسي، بمعية بعض القوى التي تحالفت معها، في إطار ما سمّي بـ «جبهة الخلاص الوطني»، هي فاشلة، لافتقادها الحاضنة الشعبية، فإنّ تحرّك اتحّاد العمال والقضاة، من شأنه أن يزيد في إرباك المشهد السياسي في تونس، وتشديد الضغط أكثر على الرئيس قيس سعيّد.

ولا يبدو أنّ الرئيس التونسي مكترث لهذه المعارضات، لاعتقاده أنّ «الشعب» التونسي يسانده بالمطلق، غير أنّ استطلاعات الرأي من جهة، وإصرار أهمّ القوى المدنية والسياسية على عدم منح الرئيس الضوء الأخضر غير المشروط لإنفاذ برنامجه السياسي، تؤكّد أنّ هذا الاعتقاد أصبح وهماً، أو يكاد، وبأنّ هذا المسار لن يؤسّس لمرحلة ديمقراطية، وإنما على الأرجح سيكون مقدمة لحكم فردي تغيب عنه المؤسّسات.

وقد مثّل عدم الاستماع لمثل هذا التقييم الصادر عن القوى الوطنية الداخلية، حافزاً إضافياً لبعض القوى الخارجية، من أجل التدخّل المباشر في الشأن الداخلي التونسي، ومن ذلك، ما أعلنته الخارجية الأمريكية مؤخّراً، إذ شدّد بيان صادر عنها، على أنّ بعض الإجراءات والمراسيم الصادرة عن الرئيس التونسي قيس سعيّد، ومنها القرار الأخير بعزل 57 قاضياً، هي إجراءات مقلقة «ومُقوِّضة لاستقرار المؤسسات الديمقراطية المستقلة في تونس»، وطالب البيان بـ «ضرورة إيلاء الضوابط والتوازنات في النظام الديمقراطي، الأهمّية اللازمة»، وحث الحكومة التونسية على «انتهاج عملية إصلاح شفافة، تشرك الجميع، وتستفيد من إسهامات المجتمع المدني، والطيف السياسي المتنوع، لتعزيز شرعية مساعي الإصلاح».

ويأتي هذا الموقف الأمريكي، في سياق مواقف دولية وإقليمية، أكّدت على ذات المعاني المساندة لمبدأ التصحيح والإصلاح، والمطالبة في نفس الوقت، بضرورة اعتماد التشاركية، كآلية عمل، حتّى لا ينحرف المسار من تأسيسٍ للديمقراطية، إلى تركيزٍ لنمط حكم فردي، مهما خلصت النوايا.

ومع اقتراب موعد استفتاء 25 يوليو المصيري، تزداد القناعة بأنّ الرئيس لا يزال مصرّاً على فرض سياسة الأمر الواقع، لاعتقاد منه بأنّ هذا هو المسار الأنسب والمثالي لتونس والتونسيين، وهو المسار الذي يجعل من تونس «مدينة فاضلة».

وإذا كان الوصول إلى بناء المدينة الفاضلة، هو غاية تُطلب، فإنّ تجارب التاريخ تؤكّد أنّها لا تُدرك، وبأنّها لن تكون بحال نقطة انطلاق، ويتّجه الرأي إلى ضرورة مراجعة الرغبات نحو الأسفل، حتّى لا تتحوّل هذه المدينة الفاضلة المثالية، إلى بؤرة جديدة للتوتّر.

 

Email