«فرساي» والرئيس بوتين

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك خلاف بين الدول الغربية حول استراتيجية التعامل مع روسيا والرئيس فلاديمير بوتين فيما يتعلق بـ«النتائج النهائية» للمواجهة الروسية الأوكرانية، فرؤية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقول بضرورة «عدم إذلال» روسيا أو الرئيس بوتين من خلال حتمية البحث عن «مخرج للجميع» يحقق المصالح الروسية والأوكرانية معاً، وينهي الأزمة في أقرب وقت، بما يحافظ على السلام والاستقرار في أوروبا، بينما استراتيجية بريطانيا التي عبرت عنها أكثر من مرة وزيرة الخارجية ليز تروس تقوم على «عدم استرضاء بوتين»، وتتحدث المملكة المتحدة كثيراً ليس عن أهمية هزيمة روسيا فحسب في أوكرانيا، بل وإضعافها، وهو هدف تقول موسكو دائماً إن هذا ما يعمل عليه حلف «الناتو» قبل وبعد الأزمة الحالية. فهل إذلال روسيا وهزيمتها في صالح السلام والاستقرار الدولي؟ أم أن دعوة الرئيس ماكرون بالبحث عن حلول تحفظ لروسيا مصالحها هو «عين الحكمة» في هذا التوقيت من تاريخ العالم؟

الإذلال يشعل الحروب

أثبتت كل دروس التاريخ أن إذلال دولة كبيرة لم ولن يكون في صالح السلام والاستقرار على المدى البعيد والاستراتيجي، وأن أي شروط مجحفة بحق أي دولة، خاصة الدول الكبرى والإمبراطورية، كانت «الشرارة» الحقيقية «للحرب التالية»، التي تكون دائماً أكثر دموية من الأولى، وخير مثال على ذلك أن «إهانة ألمانيا» بعد الحرب العالمية الأولى، وفرض شروط سياسية واقتصادية وعسكرية مجحفة، كان السبب المباشر في اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي كانت أكثر دموية من الحرب العالمية الأولى، فالمعروف أن «اتفاقية فرساي» التي جرى وضعها في «قاعة المرايا» في قصر فرساي، الذي يبعد عن باريس نحو 18 كلم في 28 يونيو 1919، نزعت نحو 13 في المئة من الأراضي الألمانية ومنحتها لدول الجوار مثل فرنسا وبولندا، كما أن 12في المئة من الشعب الألماني في ذلك الوقت تم توزيعهم على دول أخرى، وأصبح بقاء الألمان خارج ألمانيا بعد ذلك من أهم «الأوراق السياسية» التي استخدمها هتلر ووزير إعلامه جوزيف غوبلز في حشد الأمة الألمانية في الحرب العالمية الثانية، فالغالبية العظمى من المؤرخين لاحظوا أن الحزب النازي كان ينشر بنود اتفاقية فرساي ونصوصها في الصحف الألمانية قبل انتخابات عام 1933، التي فاز فيها هتلر، وكانت هذه النصوص بما تحويه من شروط قاسية فرضها الحلفاء على ألمانيا سبباً رئيساً لغضب الألمان، حيث حمّلت «اتفاقية فرساي» ألمانيا «المسؤولية الكاملة» عن اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكل الخسائر البشرية والاقتصادية التي ترتبت عليها، ولهذا كان الألمان غاضين للغاية، خاصة من الشروط الاقتصادية التي فرضت على بلدهم، وتدفيعهم نحو 269 مليار فرنك ألماني من الذهب، وهو رقم قياسي في ذلك الوقت، وكان من نتيجة كل ذلك اندلاع الحرب التالية «العالمية الثانية».

محاصرة روسيا

يتوافق مع هذا حديث موسكو، التي تقول إن الغرب يسعى في النهاية من خلال محاصرة روسيا واقتراب «الناتو» المباشر من حدودها الجغرافية إلى تقسيم البلاد، التي تبلغ مساحتها أكثر من 17 مليون كلم مربع، وتضم 85 جمهورية، إلى دويلات صغيرة، وهو هدف لا يمكن أن يؤسس للسلام والاستقرار العالمي، خاصة في أوروبا، فهزيمة أو تقسيم روسيا سوف يؤدي لاندلاع حروب قومية ودينية لا نهاية لها، سواء على الحدود الروسية الغربية مع شمال وشرق أوروبا أو في آسيا الوسطى والمحيط الهادئ، فروسيا القوية سواء في آسيا أو حتى في أوروبا هي «ضرورة للسلام والاستقرار»، وهو ما يفرض أهمية التأني والاستماع لرأي ماكرون، الذي يطالب بالبحث عن صيغة تحقق «مصالح الجميع» في روسيا وأوكرانيا وكل أوروبا.

Email