«النأي بالنفس» في النظام العالمي الجديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان من ملامح «الحرب الباردة» بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة أن دولاً كثيرة في العالم حاولت في بداية الصراع أن «تنأى بنفسها» عن هذا الطرف أو ذاك، ولهذا جاء تدشين «منظمة دول عدم الانحياز» من 29 دولة في مؤتمر باندونغ عام 1955، والتي عقدت أول اجتماع لها عام 1961، رداً على التنافس الحاد في ذلك الوقت بين حلف «الناتو» الذي تأسس بقيادة أمريكية في 4 أبريل عام 1949، ثم حلف «وارسو» بقيادة الاتحاد السوفييتي عام 1954.

لكن المواجهة الروسية الأوكرانية تقلص «مساحة الحياد» أمام الكثير من الدول التي تسعى «للنأي بنفسها». والأخطر أن الدول التي تريد أن تنأى بنفسها قد تتعرض لمضايقات، ونتيجة لهذه الضغوط أصبحت دول كانت على الحياد في أوروبا منذ أكثر من قرنين، في «عين العاصفة». فما هي مخاطر فقدان «دول الحياد» لمواقعها؟ وهل يمكن أن تتحول هذه الدول من «مناطق عازلة» و«خطوط باردة» و«مساحة للاستقرار والسلام» إلى «ساحة للمواجهة» بين الغرب وروسيا؟

الحياد وحروب السجق
في أوروبا حافظت الكثير من الدول مثل السويد وفنلندا وسويسرا ومولدوفا على وضعية «الحياد العسكري»، ومنذ مؤتمر باريس عام 1815، ظلت دولة مثل سويسرا على الحياد بما فيها في أوقات الحربين العالمية الأولى والثانية، كما حافظت فنلندا والسويد على حيادهما العسكري رغم انضمامهما إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995، لكن وبسبب الحرب الأوكرانية طلبت الدولتان الانضمام لحلف الناتو، وهو أمر تعترض عليه روسيا بشدة، وتراه تهديداً خطيراً لأمنها القومي، وهدد نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف بأن بلاده سوف تنشر صواريخ نووية قرب الحدود الروسية مع فنلندا حال انضمام هلسنكي واستوكهولم إلى الحلف، وهو ما يجعل الحدود الفنلندية الروسية التي تصل لنحو 1330 كلم «ساحة جديدة للمواجهة» بين فنلندا وروسيا تعيد للأذهان من جديد أزمنة الحرب التي يطلق عليها «حرب الشتاء» أو «حرب السجق» التي اندلعت في 30 نوفمبر 1939، حيث تنظر روسيا لنشر صواريخ قصيرة أو متوسطة المدى تحمل رؤوساً نووية لـ «الناتو» في الأراضي الفنلندية والسويدية بأنه خطر كبير على الجزء الشمالي الغربي من الأراضي الروسية، وبخاصة منطقة لينينغراد التي لا تبعد عن الحدود الفنلندية أكثر من 32 كلم.

ورغم أن الانضمام للتحالفات السياسية والعسكرية حق سيادي للدول، إلا أن توقيت انضمام فنلندا والسويد لـ «الناتو» في ظل العملية الروسية في أوكرانيا، يؤكد أن الرأي العام في هذه الدول يتعرض لضغوط غير مسبوقة، فقبل العملية الروسية، وفي أوائل فبراير الماضي كانت نسبة المؤيدين لانضمام فنلندا والسويد لـ «الناتو» لا تزيد عن 28%، لكن آخر استطلاعات الرأي في أبريل تشير إلى أن النسبة بلغت نحو 60%، وأنها تجاوزت 80% في اليوم الذي تقدم البلدان بطلبهما لدخول الحلف.

المؤكد أن الضغوط على الدول التي تسعى للحفاظ على «مساحات الاختلاف والاتفاق» مع طرفي المواجهة سوف تستمر، وأن التداعيات السلبية لهذه المواجهة لن تتوقف عند تعثر سلاسل الإمداد، وارتفاع التضخم، وكلها مخاطر تحتاج إلى «حكمة كبيرة» مع الحفاظ على سياسة «النأي بالنفس».

Email