المعركة حول طبيعة النظام الدولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هويّة الأطراف الفاعلة في الحرب الدائرة بأوكرانيا تكشف عن أن المعركة الحقيقية اليوم هي معركة حول طبيعة النظام الدولي الراهن، وإعادة تشكيله.

فمنذ أن بدأت العمليات العسكرية الروسية، حشدت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية دعمهما العسكري والمادي والإعلامي بكل قوة وراء أوكرانيا حتى صارت الحرب أشبه بحرب بالوكالة بين روسيا والغرب. لكن الحرب شهدت تصعيداً موازياً بين الولايات المتحدة والصين في عدة ملفات. فبينما حذرت وزيرة المالية الأمريكية الصين من «العواقب الاقتصادية» بسبب موقفها من الحرب في أوكرانيا، زار وفد من الكونغرس الأمريكي تايوان، فأجرت الصين مناورات عسكرية حول الجزيرة. وأدى توقيع اتفاق عسكري بين الصين وجزر سليمان لزيارة فورية قام بها وفد أمريكي رفيع المستوى للجزيرة.

والحقيقة أن روسيا والصين تعتبران النظام الدولي الراهن لا يخدم مصالحهما ويصب في مصلحة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية فقط. ولكل من الدولتين أسبابها المختلفة. فروسيا خرجت من الحرب الباردة جريحة بعد تفكك الإمبراطورية السوفيتية التي كانت تجلس على قمتها. ليس ذلك فقط، وإنما حنثت الولايات المتحدة بتعهدها الذي قطعته لغورباتشوف بعدم توسع حلف الشمال الأطلسي شرقاً. فقد توسع الحلف شرقاً وراح يضم الدولة بعد الأخرى حتى وصل لحدود روسيا وصار يطوقها من كل جانب باستثناء حدودها مع أوكرانيا التي تدور فيها الحرب اليوم. ومن ثم، فإن تحركات روسيا العسكرية والسياسية المكثفة في العالم خلال العقد الماضي هدفت في جوهرها لإعادة تشكيل النظام الدولي لئلا يظل نظاماً أحادي القطبية يهدد مصالحها ويصب فقط في مصلحة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

أما الصين، فقد نشأ ذلك النظام الدولي، ثم تطور بعد نهاية الحرب الباردة، وهي لا تزال، بمعنى من المعاني، دولة «نامية» تسعى للالتحاق بمصاف القوى الكبرى. وقد استطاعت الصين أن تقفز قفزات اقتصادية هائلة تلاها تطوير مذهل لقوتها العسكرية والتكنولوجية حتى صارت الولايات المتحدة تعتبر الصين هي «التهديد الجيوستراتيجي الأول» لها في العالم. ومشروع الحزام والطريق الذي تتبناه الصين، بقدر ما هو مشروع اقتصادي عملاق يهدف لمد جسور التجارة العالمية فإنه يمثل تحدياً جيوستراتيجياً للولايات المتحدة التي تخشى أن يعيد تشكيل هيكل النظام الدولي، ولو على الأقل في إقليم شرق آسيا.

ولعلها ليست مصادفة أن يعلن الرئيس جو بايدن صراحة التلازم بين مواجهة الصين ومشروعيه لتطوير البنية التحتية الأمريكية ودعم قطاعات بعينها من الاقتصاد. فالولايات المتحدة دفعت ثمناً باهظاً لحروبها اللانهائية التي خاضتها منذ نهاية الحرب الباردة في الشرق الأوسط، ولتوسعها العسكري المفرط في كل مكان بالعالم. فقد صارت التكلفة العسكرية تلتهم نصيب الأسد من الميزانية الأمريكية ليس فقط على حساب البرامج الاجتماعية والاقتصادية، وإنما وهو الأهم على حساب إعطاء الأولوية للتطور العلمي والتكنولوجي.

والولايات المتحدة التي صارت تسعى للانسحاب من الشرق الأوسط للتركيز على آسيا لمواجهة التحدي الصيني وجدت نفسها إزاء الحاجة للتركيز أيضاً على أوروبا بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا. وهدفها الرئيس في أوروبا هو الحفاظ على النظام الدولي الحالي، لا على أوكرانيا ذاتها، والدليل أن الولايات المتحدة لا تريد انتهاء الحرب قبل تقويض القوة الروسية.

المفارقة في كل ذلك أن الصين صاحبة المصلحة في إيجاد نظام دولي مواتٍ لمصالحها لا تريد أن تحل محل الولايات المتحدة «كشرطي العالم». فهي تريد الاستفادة من المظلة الأمنية التي توفرها الولايات المتحدة في أقاليم مختلفة من العالم فتستغل الاستقرار الناتج عنها لتحقيق أهدافها الاقتصادية. والولايات المتحدة تدرك ذلك وتعتبره «انتهازية» تسعى لحرمان الصين منها.

باختصار، فإن ما نشهده اليوم هو معركة بين قوى كبرى تسعى كل منها لتشكيل النظام الدولي أو الحفاظ عليه. والنتيجة التي ستسفر عنها الحرب في أوكرانيا ستلعب دوراً جوهرياً فيما إذا كان ذلك النظام متجهاً نحو حرب باردة جديدة أم تعددية قطبية أخرى.

Email