شخصيات تحت المجهر

الشيخ أحمد بن دلموك.. مضرب الأمثال في الكرم

ت + ت - الحجم الطبيعي

رويت عنه حكايات كثيرة تدل في مجملها على أنه كان صاحب كرم حاتمي مدهش. فقد قيل إنه إذا ركب الباخرة مسافراً استضاف كل من عليها طوال مدة الرحلة، وإنه كان يقدم الوجبات الثلاث في مجالسه يومياً لكل جائع وفقير، وإنّ عملية توزيع زكواته كانت تستمر شهرين أو أكثر في دبي والإمارات المجاورة، وإنه إذا أدخل يده في الكيس أو الصندوق أخذ من المال ملء يده وناوله المحتاج ومن دون أنْ يعد أو يحسب، الأمر الذي جعل اسمه مضرباً للأمثال في الكرم فيقال «مثل كرم ابن دلموك».

ذلك هو الشيخ أحمد بن دلموك بن سعيد بن عبدالله بن حمدان الفلاسي، صهر الشيخ سعيد بن مكتوم بن حشر بن مكتوم آل مكتوم، مؤسس دبي وحاكمها ما بين عامي 1912 و1958. وآل بو فلاسة الذين ينتمي إليهم ابن دلموك، طبقاً لما ورد في كتاب «الخليج بلدانه وقبائله» من تأليـــف «س. ب. مايلز»، قبيلة قضاعية قحطانية الأصل، ياسية الجد (نسبة إلى بني ياس).

ولد ابن دلموك في دبي، ونشأ بها في ظل والده، الذي عــرف بين الناس بالبر والإحسان، وتلقى تعليمه في كتاتيبها، ولكنه أثرى ثقافته بالقراءة والسفر ومجالسة العلماء. وكان واحداً من كبار تجار اللؤلؤ الخليجيين، ومن ممولي سفن الغوص ومن المتاجرين في سلع متنوعة هندية المنشأ. وكان أيضاً من محبي العلم والعلماء، وآية ذلك قيامه ببناء «المدرسة الأحمدية»، والإنفاق على معلميها وطلبتها، ناهيك عن اهتمامه بطباعة الكتب على نفقته الخاصة، ومنها الكتاب الفقهي المعروف «تحفة السالك لمذهب الإمام مالك». إلى ذلك كان تقياً ورعاً، ومن علامات تدينه وورعه ــ كما روى معاصروه ــ أن صلاة الجماعة لم تفته قط، ولم يـذكر عنه أنه أكل حراماً أو ظلم أحداً. وكان إذا مشى في الطريق لا يرفع عينه خشية أن تقع على امرأة. ومنها أيضاً قيامه ببناء مسجد يحمل اسمه، لا يزال قائماً بمنطقة الرأس.

والمدرسة الأحمدية، التي تعد أول مدرسة شبه نظامية تفتتح في دبي، راودت ابن دلموك فكرتها قبل زمان طويل من الشروع في بنائها من سعف النخيل عام 1912. وكان هدفه الوحيد نشر العلم في المجتمع فحسب، وليس المال والصيت. وتشاء الأقدار أن يتوفّى الرجل أثناء بناء المدرسة، فلا تكتحل عيناه برؤية مشروعه، ولكن نجله الأكبر الشيخ محمد بن أحمد بن دلموك قام بإتمام ما بدأه والده، وأطلق على المدرسة اسم الأحمدية تيمناً بأبيه. وقد سار الابن على درب أبيه لجهة أعمال الخير والبر والعطف على الفقراء، ففتح أبواب الأحمدية للجميع من دون استثناء، وكان يتقاضى من أبناء الأغنياء رسوماً دراسية لا تتعدى 5 روبيات، أما أبناء الفقراء فكان يتبرع بالدفع عنهم وتوفير الغذاء والكساء لهم. وضم إلى المدرسة نخبة من خيار المدرسين ممن كانوا قدوة صالحة بعلمهم وعملهم للرعيل الأول من أبناء دبي والإمارات. ومن بين من تلقوا تعليمهم في هذه المدرسة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله تعالى.

يخبرنا أحمد حمد الشيباني، وهو من الرعيل الأول من رجالات التعليم في الإمارات، أن الدراسة في الأحمدية في بداية ظهورها كانت على شكل حلقات علم شبيهة بما كان عليه الحال في الأزهر والمسجد النبوي، وأن هذا استمر ولم يتغير إلا مع نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين حينما استقدم ابن دلموك مدرسين وعلماء من أهل الزبير (مثل أحمد العرفج ويوسف الجامع ومشعان المنصور وعبدالله الوهيب) فقام هؤلاء باستحداث دروس الخط والحساب والفقه والجغرافيا والتاريخ والبلاغة والمنطق وعلم المواريث. ويضيف الشيباني إن بعض المدرسين كانوا يأتون من مصر ومكة والأحساء ويقيمون في الأحمدية بضعة أشهر ثم يعودون إلى أوطانهم ويأتي غيرهم ليحل محلهم، وأن الأحمدية كانت تضم مسكناً ملحقاً بالمرافق كافة لخدمة الطلبة القادمين من خارج دبي. ونظراً للمكانة التاريخية والتربوية للمدرسة، فقد قامت حكومة دبي بترميمها في منتصف عام 1994، ثم حولتها إلى متحف في مارس 2000.

والحقيقة أنّ اهتمامات ابن دلموك لم تنحصر في التعليم، وبناء المساجد، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، وإنما امتدت أيضاً إلى المجالين الصحي والاقتصادي. فهذا المحامي والمؤرخ والشاعر المرحوم محمد سعيد النيار يخبرنا أنّ الرجل أحضر على نفقته الخاصة طبيباً من البحرين لعلاج وتطعيم مرضى دبي وبقية الإمارات. وهذا الباحث حسين بن إبراهيم البادي يصفه في كتابه «أعلام الإمارات» بـ«الرجل الذي كان اقتصاد المدينة يقف شبه معتمد على ثروته وما يملكه من سفن غوص».

وقد تم العثور، ضمن وثائقه ومراسلاته، على رسالة قديمة موجهة منه إلى الشيخ أبو بكر ابن الشيخ عبدالله الملا في الأحساء، الأمر الذي يثبت أنه كان صاحب علاقة وثيقة بعلماء المالكية من آل الملا وآل مبارك وغيرهما من بيوتات العلم في الأحساء من جهة، ويثبت من جهة أخرى متانة العلاقات وقدمها بين شعوب ورجالات منطقة الخليج العربي.

بظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني، وانهيار تجارة اللؤلؤ الطبيعي، وحلول الكساد الاقتصادي على ربوع الخليج، كان من الطبيعي أن تتأثر أوضاع ابن دلموك المالية ويتأثر بالتالي تمويله للمدرسة الأحمدية وطلابها. وهنا تقرر، كنوع من المساعدة، أن تستأجر الحكومة جانباً من المدرسة ليكون مقراً للقضاء، ريثما تتحسن الأحوال.

لقد تأثر ابن دلموك نفسياً وصحياً بانهيار أسواق اللؤلؤ الطبيعي عام 1929، وخصوصاً مع وقوعه شخصياً تحت طائلة الديون، لأن بيع اللؤلؤ في باريس في سنة 1930، والتي تعد من أصعب السنوات على تجار اللؤلؤ الخليجيين، لم ينجح، ناهيك عن عدم استطاعة عشرات السفن الذهاب إلى موسم الغوص بسبب عدم تسديد الديون ورفض «البانيان» الهنود تمويل هذه السفن كما جرت العادة. وهكذا مرض الرجل وتدهورتْ حالته إلى أن أسلم الروح إلى باريها عام 1940 وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، بل مات مديناً. وكان يوم وفاته يوماً حزيناً على دبي وبقية الإمارات، وعلى منطقة الخليج قاطبة لما عــرف عنه من زهد وسخاء وأريحية وورع وتقوى.

Email