شخصيات تحت المجهر

عبدالله أحمد عبدالجبار.. مربي الأجيال وقدوتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو من أنبل رجالات الحجاز والسعودية، وأكثرهم ترفعاً وسمواً عن الماديات. قال عنه الشيخ حمد الجاسر: «إنه على رأس النقَّاد بين أدباء البلاد الذين لا تعوزهم النزاهة والجرأة والصراحة»، وكتب عنه الدكتور حذيفة الخراط قائلاً: «كاتب أحبّ أمـّـته فشغله همّها، وأديب واقعي حمل نسمات الحـِلم، لم تكن الكتابة عنده ترفاً أو حلية، ولم تكن وجاهة أو جاهاً».

توفي في 8 مايو 2011 بمكة، فانطفأت شمعة رائد اعترف بأفضاله مجايلوه قبل اعتراف الأجيال التي أتت بعده وقرأت ما تركه لها من فوانيس مهدت لحراك فكري تنويري مبكر. الحديث هنا عن الأديب والمربي عبدالله أحمد عبدالجبار المولود عام 1919م لعائلة مكية بحارة «سوق الليل» المجاورة للبيت الحرام، والذي نشأ في رحاب المدينة المقدسة، فكان للمكان أثر في سكونه وورعه ولطفه ورقيه وفتونه بالفكر والتأمل.

تم إلحاقه في سن الخامسة بكـُـتـّاب جواهر عبدالهادي الفقيه، فتعلم على نبرات صوتها القرآن ومبادئ القراءة والكتابة والحساب، وكان لرعايتها له وأفضالها عليه دور في احترامه للمرأة والمنافحة عن حقوقها لاحقاً. بعدها التحق بالمدرسة الفخرية العثمانية، ثم بمدرسة الفلاح بمكة التي انتقل منها لمواصلة دراسته في القاهرة التي انضم فيها عام 1936 إلى طلاب الدفعة الثانية من مبتعثي مدرسة تحضير البعثات الذين أمر الملك عبدالعزيز بإرسالهم إلى مصر للتخصص، حيث أمضى هناك أربع سنوات دارساً في كلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول، ومتماهياً مع أجواء القاهرة الثقافية والفنية، ومغرماً بالحفلات الكلثومية، ومشجعاً لفريق النادي الأهلي، إلى أن تخرج عام 1940، حاملاً ليسانس اللغة العربية والدراسات الإسلامية. وبهذا يعتبر الرجل واحداً من الجامعيين العشرة الأوائل في تاريخ السعودية. عاد إلى بلاده شاباً متحمساً للعمل من أجل نشر الفكر والمعرفة الحديثة في مجتمعه.

وعلى الرغم من توفر فرص العمل المتنوعة في الدولة السعودية الناشئة آنذاك، إلا أنه اختار أن يخدم في سلك التعليم إيماناً منه بأن التعليم الجيد والمعلم المتمكن هما مفتاحا النهضة. وهكذا عمل مدرساً بمدرسة تحضير البعثات، ثم صار في عام 1947 مديرا للمعهد العلمي السعودي بمكة، فساهم في تخريج الجيل الذهبي من مسؤولي السعودية ورجالاتها الأوائل. حنّ للدراسة مجدداً، فعاد إلى مصر عام 1949 لإكمال تعليمه العالي. ولم يكد يصل القاهرة إلا ورسالة من وزارة المعارف السعودية تخيره بين مواصلة الدراسة أو العمل كمراقب عام للبعثة التعليمية السعودية بمصر.

وفي واحدة من تجليات حرصه على رعاية الأجيال وتوجيهها خدمة لنهضة بلده، نجده يغلب مصلحة الطلبة المبتعثين على مصلحته الشخصية، ويقبل بتقلد أعباء رعايتهم والإشراف على شؤونهم. وقد اعترف جميع من كانوا تحت رعايته آنذاك، ومنهم من صار وزيراً أو وكيلاً أو سفيراً بفضله عليهم وتشجيعه الدائم لهم. لذا لم يكن غريباً أنْ يلقبوه بالأستاذ.

وفي مناخات القاهرة الثقافية الحرة آنذاك، لم يحصر نفسه في تأدية أعباء وظيفته فقط وإنما أشغل نفسه أيضاً بالاستزادة المعرفية عبر القراءة والمطالعة باللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية، وحضور الصالونات الأدبية، والالتقاء برموز الفكر والثقافة والفن من أبناء مصر وضيوفها، بل قام بتحويل شقته في الجيزة إلى صالون أدبي، وساهم في تأسيس «رابطة الأدب الحديث»، التي عمل من خلالها على تبني المواهب القصصية والشعرية الشابة وتشجيعها، الأمر الذي حوله إلى اسم معروف في الأوساط القاهرية.

ظل على هذا الحال في القاهرة عشرين عاماً، سعيداً بعطائه وعمله، دون أن يتزوج، مكتفياً بإغداق حنانه الأبوي على شقيقته الوحيدة خديجة، وطفلتها فاطمة، ومردداً على مسامع من كانوا يستغربون عزوبيته أنه متزوج من العلم.

لكن الأستاذ محمد القشعمي كتب بصحيفة عكاظ قائلاً إن عبدالجبار رغب وهو في مصر بالزواج، فخطب فتاة من الإسكندرية تدعى فردوس، وكان ينتظر زواج أختها الكبرى ليتزوجها، لكنه صرف النظر عن الموضوع وراح يردد عبارة «لقد فاتني قطار الزواج»، وذلك بعد أن فؤجئ بخبر زواج فردوس من أحد الضباط. كتب القشعمي أيضاً عن خصال الرجل فقال إنه كان زاهداً في الدنيا، متواضعاً، محباً للجميع، يسيراً في حياته، كارهاً للأضواء، وأن من آيات زهده وعزة نفسه قصة الشيك الذي تلقاه بخمسة ملايين ريال من الملك فهد بن عبد العزيز حينذاك والذي لم يصرفه وظل يحتفظ به في وسط أحد كتبه قائلاً: «لست بحاجته، فلدي ولله الحمد ما يكفيني من راتبي التقاعدي».

أحب عبدالجبار مصر كثيراً، رغم تغير نظامها السياسي، وآمن بشعارات النظام الجديد العروبية والوحدوية، معتقداً أن توجهاته هذه معطوفة على سمعته الناصعة في الأوساط الثقافية المصرية كفيلتان بحمايته من أي جور، لكنه كان مخطئاً! فبـُعيد هزيمة يونيو 1967، ومع سيطرة أجواء عدم اليقين السياسي، تزايدت شكوك السلطات في المثقفين وتجمعاتهم، فكان عبدالجبار وبعض ندمائه في صالونه الثقافي ضمن ضحايا تلك الحملة. وهكذا أمضى صاحبنا عاماً كاملاً في المعتقلات دون أن توجه له تهمة محددة. وحينما أفرج عنه بعد ثبوت براءته، وجه له الرئيس عبدالناصر رسالة اعتذار لم تنفع في مداواة كبريائه المجروحة.

هذه الواقعة تسببت له في خيبة أمل كبيرة، ما دفعه إلى العزلة لبعض الوقت، قبل أن يلملم جراحاته وحوائجه عام 1968 ويتجه بها صوب لندن، حيث استقر بمنزل متواضع سرعان ما حوله إلى مدرسة خاصة لتدريس أبناء الجالية العربية هناك، علماً بأن هذه المدرسة صارت فيما بعد نواة لمشروع أكاديمية الملك فهد في لندن، وتمّ تعيين عبدالجبار مديراً مؤسساً لها، وهو ما أشعره بشيء من الراحة في أعقاب ما تعرض له من إساءة، فمضى في عطائه إلى أن غالبه الحنين إلى منازل طفولته في الحجاز، فعاد إليها عام 1978، ليتم تعيينه مستشاراً ثقافياً لشركة تهامة للإعلان، ومستشاراً لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة التي كانت وقتذاك جامعة وليدة ليس بها مكتبة طلابية، الأمر الذي حزّ في نفسه ودفعه للتبرع بمكتبته الخاصة النفيسة للجامعة.

من مؤلفاته وإصداراته المتنوعة: «مرصاد المرصاد» (1952) وهو عبارة عن دراسة نقدية متميزة بالحكمة والشفافية، «قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي» (1958) وهو مؤلف يعتبر من المراجع الموسوعية الهامة في الأدب الحجازي والسعودي، «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية» (1959)، وهو عبارة عن دراسة أكاديمية منهجية من وحي المحاضرات الفكرية التي ألقاها في معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، «الغزو الفكري في العالم العربي»، وهو كتاب تناول فيه أساليب المستعمر في تذويب الروح الوطنية وتهجير العقول نحو بلاد الغرب، «العم سحتوت» وهي قصة خصصها لشن حملة على بعض الصفات البغيضة المنتشرة في المجتمع من خلال شخصية بطل القصة «سحتوت»، الرجل البخيل اللئيم المرابي الأناني الخبيث. وأتبعها بقصة أخرى حملت عنوان «أمي»، وهي قصة تربوية عن فتى عصامي لأم جسورة وهبت كل حياتها لتربية ابنها بعد وفاة زوجها في الحرب.

بعد مضيّ عام على عمله مستشاراً بجامعة الملك عبدالعزيز، قرر أن يستقيل ويتفرغ للثقافة والكتابة الصحفية، مدعياً أنه لم يقدم شيئاً من خلال وظيفته تلك وبالتالي لا يستحق راتبها، فأسس على إثر ذاك صالونه الثقافي بجدة الذي صار محجة لتلاميذه وأصدقائه ومثقفي البلاد. كما راح يكتب المقالات في الصحافة المحلية مكرراً ما فعله أيام تواجده في مصر، خصوصاً في ظل إيمانه بالكلمة بوصفها الخلاص الوحيد للخروج من دوائر العتمة والخوف. ولعبدالجبار مساهمات أخرى، منها كتابته لمقدمات العديد من الكتب الأدبية بطريقة مسهبة حتى يخال للقاريء أنها كتاب أضيف إلى كتاب. ومنها أيضاً قيامه بترجمة بعض المقالات الأجنبية ونشرها في المطبوعات المصرية والحجازية القديمة، ومشاركته في مؤتمر الأدباء العرب ببغداد عام 1965 بصفته الشخصية، وعودته إلى نفس المؤتمر عام 1985 ممثلاً لبلاده. في عام 2006 أختير كـ«شخصية العام الثقافية» في مهرجان الجنادرية 21، ومــُنح وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى. ومن آيات تكريمه أيضاً إطلاق إسمه على أحد شوارع كورنيش جدة، وقيام صديقيه محمد سعيد طيب وعبدالله فراج الشريف، بجمع أعماله وإصدارها في سبعة مجلدات، بتمويل من الشيخ أحمد زكي يماني.

Email