رمضان.. حارتنا !

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس كما قال ذاك الذي سألوه عن رمضان فأجاب، أحب رمضان لكن لو ما فيه صيام ! إنما كما قال الله في كتابه الكريم «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».

ولأن الأصل في الشهر الفضيل العبادة، وهي ثابتة لا تتغير إلا أن الكثير من طقوس رمضان، كما كل الأمور الحياتية تتغير مع الزمن.

كان رمضان مرتبطاً بأشياء حصرية، أبرزها مشروب السوس والقطايف. القطايف بالجوز فقط قبل أن تحشر الجبنة والقشطة نفسها في حبة القطايف. جوز عين الجمل وكثير من جوز الهند لأنه أقل سعراً.

وهذه، أعني القطايف، من اختصاص الأب. يطحن الجوز بالهاون النحاسي، يكبس أطرافها جيداً ثم يصفها في صينية من الألمنيوم. ينادي على أحد الأبناء. يعطيه عشرة قروش ثمن خبزها، ويقول له: قول لأبو سمير الفران يحمرهم منيح. كنا ننتظر على الدور فيما رائحة القطايف بعد خبزها تخترق أحشاء شهيتنا. عند الانتهاء من خبزها نحملها بقطعة قماش مخصصة للخبز ونركض إلى البيت حتى لا تبرد. تكون الأم قد أعدت القطر من السكر والماء وقطرات قليلة من الليمون حتى تغلى على البابور بعد أن تصبح شبه لزجة، وحتى الآن لا أعلم لماذا الليمون !

لماذا فرن الحارة؟ لأن أفران الغاز لم تكن دخلت البيوت بعد.

لم يزل طعم تلك القطايف عالقاً في فمي، وربما أبناء جيلي أيضاً.

السلطة أيضاً كانت من اختصاص الأب وكل من في البيت يكون مرغماً أن يساعده، فهو الشيف الما بعده شيف.

«هاتوا البندورة، هاتوا البقدونس، هاتوا الليمون، هاتوا بصلة، هاتوا الفلفل، هاتوا الزيت». الكل كان ينشغل بـ«هاتوا» فهي أوامر الوالد التي لا مجال لرفضها. فهو العصبي الصائم. يريد أن يشارك في إعداد الإفطار. نحضر له كل شيء وهو يتفنن في إعداد السلطة كما لو كان يخترع الذرة.

في رمضان كان التكافل الاجتماعي يتجلى بأجمل صور البراءة. كل عائلة ترسل صحناً من طبختها إلى أقرب الجيران. لكن ماذا تفعل العائلة التي لم يكن بمقدورها أن تطبخ ما يبيض الوجه ويملأ العين أمام الجيران؟

في الحارة كانت تسكن عائلة تحت خط الفقر باعتبار أن الكل كانوا فقراء. في رمضان لم يكن بمقدور الأم إلا أن تطبخ العدس للعائلة، يوم شوربة «فَت عدس»، يوم عدس حَب مع تتبيلة ثوم وليمون، وهكذا.... كانت الأم ترسل صحون عدس إلى الجيران مع أولادها قبل الإفطار فيرسل لها الجيران الصحون بطبخة ذاك اليوم فتكتمل مائدة الإفطار بما لذ وطاب من أنواع الطعام.

... هكذا كان التكافل الاجتماعي، طبيعي وبنية طيبة و... بحب فطري.. كان الكل فقيراً لكن كان ثمة حب يكفي الكل!!

تحت عامود الكهرباء في الحارة، كنا نلعب في بعد الإفطار مباشرة. لم تكن الكهرباء دخلت معظم البيوت. ضو نمرة أربعة وفي أحسن الأحوال فانوس ومصدر «الطاقة» الكاز.

لا ثلاجة ولا كولر، هي النملية لما يتبقى من طعام، وهو الزير للماء الزلال. لا تلفزيون ولا ريسيفر ولا مسلسلات.

يجتمع الجيران كل ليلة في حوش أحدهم. يشربون «السوس» الذي كان سيد المشروبات وبعده الشاي بالميرمية أو النعناع. يتحدثون عن أيام زمان. ويتمنون أن تعود.

لو، لو تعود أيام زمان وزمان زمان. بلا فواتير كهرباء ولا قوارير ماء، ولا.. أحزان!

أما دكان الحارة، ومصطبتها فكانت ملتقى الصبية. قبل ثلاثين سنة وحال دكان حارتنا كما هو. لم يقض عليه الميني ماركت وبعده السوبر ماركت. كان أولادي صغاراً يلعبون أمام نفس الدكان المقابلة لبيتنا، يشترون «الطقيع» ويلعبون الأستغماية. اليوم يلعب أولادهم، أحفادي.

«رمضان كريم» ليست مجرد عبارة تهنئة، بل هو فعلاً شهر كريم بعطاءاته للصحة وتطهير النفس والشعور مع المحتاجين و..طقوسه المميزة عن بقية شهور السنة.

 

* كاتب أردني

Email