شخصيات تحت المجهر

محمود عبدالله طيبة.. «أبو الكهرباء» النقي خلقاً النظيف كفاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

من رجالات السعودية الذين تركوا خلفهم سيرة عبقة ملأت الزمان والمكان بأريج الوطنية والنزاهة والوفاء، ابن مكة المكرمة المهندس محمود عبدالله عبدالقادر طيبة، الرجل الذي له من اسمه أوفر نصيب، والشخصية التي عـُرفتْ عند الناس بـ «أبو الكهرباء» لدوره المشهود في نشر ضياء الكهرباء على امتداد وطنه من موقعه الوظيفي كمحافظ للمؤسسة العامة للكهرباء، قبل أن يتسلم أعباء ومسؤوليات أخرى أبلى في جميعها بلاءً حسناً، حتى عـُدّ بطلاً من أبطال التنمية ونموذجاً للجودة والإجادة ومرآة للأمانة ونظافة الكف ونكران الذات.

ولد طيبة بحارة أجياد المكية، في 8 فبراير 1930 فنشأ متنفساً أريج البيت العتيق، محلقاً مع صدى أذان المسجد الحرام، مرتوياً من بئر زمزم، ما جعله منذ صغره مسكوناً بالوداعة والطمأنينة والطيبة ومجبولاً على الصدق والتقوى والاستقامة في القول والعمل.

وكغيره من أطفال تلك الحقبة من تاريخ الحجاز، بدأ خطواته الدراسية الأولى بالالتحاق بمدرسة الفلاح التي أسسها الشيخ محمد علي زينل في مكة سنة 1912م. وبمجرد إنهاء دراسته بهذه المدرسة، التحق بمدرسة تحضير البعثات الثانوية، التي كانت وقتها تحت إدارة الأديب المعروف عبدالله أحمد عبدالجبار. حصوله على شهادة الثانوية العامة مهد له الطريق للعمل موظفاً بوزارة المالية، حيث سرعان ما اكتشف رؤساؤه أنهم أمام موظف نابغ وحريص على الارتقاء بنفسه، فقرروا عام 1949 إرساله إلى مصر على نفقة الدولة لإكمال تعليمه.

في القاهرة حظي برعاية واهتمام مديره في المرحلة الثانوية الأستاذ عبدالله عبدالجبار، الذي كان قد سبقه إلى هناك للعمل مشرفاً على طلبة البعثات السعودية بمصر، وزامل ثلة من مواطنيه المبتعثين النابغين، لكنه تميّز عنهم بتخصصه. فعلى حين درس معظم زملائه في كليات جامعة فؤاد الأول الأدبية، التحق هو بكلية الهندسة التي تخرج فيها عام 1956م.

بعد تخرجه عاد إلى وطنه حاملاً بكالوريوس الهندسة الكهربائية، وتجربة سنوات من الاغتراب والاعتماد على النفس، ليبدأ مشواره العملي، داخلاً تاريخ وطنه كأول مواطن سعودي متخصص في الهندسة الكهربائية.

كانت بدايته مع شركة أرامكو، التي التحق بها في مقرها الرئيس بالظهران. كانت أرامكو وقتذاك (عام 1956م) شركة يسيطر الأمريكيون على مفاصلها ويشغلون جل مراكزها الوظيفية المتقدمة، لذا كان التحاقه بها في ذلك الوقت المبكر عنصر تحول سوف يمتد أثره إلى غيره من المواطنين.

تنقل في وظائف وأقسام هندسية مختلفة على مدى ثلاث سنوات متواصلة إلى أن جاء العام 1959 الذي قررت فيه الشركة مكافأته بابتعاثه إلى الولايات المتحدة لاستكمال تعليمه العالي، فطار إلى مدينة «بيت لحم» بولاية بنسلفانيا، حيث التحق هناك بجامعة ليهاي Lehigh التي منحته درجة الماجستير في الهندسة الميكانيكية عام 1961. وعلى إثر ذلك عاد إلى الظهران لمواصلة عمله لدى أرامكو كأول مهندس سعودي بالشركة متخصص في الكهرباء والميكانيكا، لمدة عامين آخرين تقريباً.

في عام 1962 حدث أنْ شكلت حكومة جديدة عهد فيها بحقيبة التجارة إلى الشيخ أحمد صلاح جمجوم الذي رغب في تطعيم وزارته بكفاءة وطنية مؤهلة وصاحبة سجل ناصع في الأداء، من أجل الإمساك بشؤون الكهرباء التي كانت وقتذاك ضمن مسؤوليات وزارة التجارة، فكان أن عرض جمجوم على طيبة الالتحاق بوزارته، فوافق الأخير. وبهذا ودع صاحبنا الظهران وانتقل إلى الرياض.

في الرياض تولى منصب مدير عام الشؤون الصناعية بوزارة التجارة، فصار بصفته تلك مسؤولاً عن الترخيص للشركات والمصانع التي لها علاقة بالكهرباء، في وقت كانت الكهرباء فيه لا تغطي مساحة المملكة الشاسعة. كما تسلم علاوة على ذلك منصب مدير هيئة الأبحاث في الوزارة التي استحدثت بناء على توصية من الأمم المتحدة.

كان عمله بوزارة التجارة، بداية لرحلة طويلة استمرت نحو أربعة عقود تنقل خلالها في العديد من المواقع والمسؤوليات القيادية. فحينما تم إلغاء وزارة التجارة وصدر أمر ملكي بتغييرها إلى وزارة الصناعة والكهرباء عام 1975 وتعيين الدكتور غازي القصيبي على رأسها، خدم طيبة تحت قيادة الأخير كوكيل للوزارة لشؤون الكهرباء، ثم تمّ تعيينه محافظاً للمؤسسة العامة للكهرباء ثم تولى رئاسة مجلس إدارة الشركة العربية الموحدة للكهرباء في المنطقة الشرقية والمنطقة الغربية، كما ترأس أو حظي بعضوية مجالس إدارات العديد من الشركات والمؤسسات الحكومية الأخرى. وفي عام 1997 تمّ اختياره عضواً بمجلس الشورى، فعمل كعادته بدأب وإخلاص وترفع، وأثبت أن اختياره في موقعه الشوري كان في محله. وفي أبريل سنة 2005 وقع اختيار الملك فهد بن عبدالعزيز عليه ليكون نائباً لرئيس مجلس الشورى.

في كل المواقع التي شغلها الرجل دون استثناء برع كإداري محنك، على الرغم من دراسته العلمية، واشتهر بعشقه للبذل وتكريس قيمة العمل في نفوس مرؤوسيه، ومحاربته للبيروقراطية الحكومية ومظاهر التسيب والمحسوبية والفساد.

ومن القصص المتداولة عنه ما ذكره الدكتور غازي القصيبي في كتابه الشهير «حياة في الإدارة»، وهي قصة تعكس قمة أمانة ونزاهة المسؤول الحكومي، وملخصها أن طيبة حينما كان محافظاً للمؤسسة العامة للكهرباء ووكيلاً لشؤون الكهرباء بوزارة الصناعة والكهرباء، تمت الموافقة على تكليف أربع دول ببناء أربعة مشروعات ضخمة للكهرباء، كان من بينها كوريا الجنوبية.

المفاجأة حدثت بعد ذلك حينما كان طيبة يقضي إحدى إجازاته في لندن، حيث لحق به أحد مسؤولي الشركة الكورية، مقدماً له رشوة بمبلغ 50 ألف جنيه إسترليني نقداً بهدف التساهل مع شركته وقت تنفيذ المشروع، فاعتذر طيبة متعللاً بصعوبة حمل مثل ذلك المبلغ الكبير، ووعده بالاتصال به لاحقاً حينما يعود إلى الرياض.

وبالفعل قام بمجرد العودة للمملكة بالاتصال بالمسؤول الكوري وطلب منه زيادة مبلغ الرشوة إلى مليون ريال من باب طمأنته. في الوقت نفسه قام بإحاطة الوزير القصيبي بالموضوع، فقام الأخير بدوره بإحاطة وزير الداخلية وولي العهد، وتم الاتفاق على عمل كمين للمسؤول الكوري. وتقديراً لأمانته ونزاهته أمر المغفور له الملك خالد بمنحه وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، ومكافأته بمبلغ المليون ريال المصادر.

الجانب الآخر من شخصية طيبة الآسرة هو اهتمامه بالأعمال الخيرية، وأنشطته التطوعية في رعاية الأيتام والعناية بذوي الاحتياجات الخاصة، والتي كان يتجنب الحديث عنها. فقد عمل نائباً لرئيس مجلس إدارة جمعية الأطفال المعوقين لمدة ‏عشر ‏سنوات، كما عمل في مجال رعاية الأيتام لمدة 18 عاماً.

في يوم الأربعاء 17 يوليو 2008م، وداخل مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، توفي طيبة، فصلي عليه بالمسجد الحرام ودفن بمقابر المعلاة بمكة.

Email