البوصلة الاستراتيجية واستقلال أوروبا

ت + ت - الحجم الطبيعي

كل المؤشرات تقول إن عالم ما بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لن يكون كما قبلها، وإن حسابات الدول وحتى الأفراد ستختلف ليس فقط بسبب الاختلال والهشاشة التي يعاني منها العالم، بل لأن قرارات كثيرة ظلت لعقود حبيسة الأدراج وجدت طريقها للنور بسبب هذه الحرب، ومنها إقرار قادة الاتحاد الأوروبي في قمتهم الأخيرة استراتيجية أمنية جديدة أطلقوا عليها «البوصلة الاستراتيجية»، وهي تشبه استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي يعلنها كل رئيس أمريكي جديد يدخل البيت الأبيض. وأقرت البوصلة الاستراتيجية لأول مرة في تاريخ الدول الأوروبية تشكيل قوة تدخل سريع قوامها 5000 جندي، كما أقرت المفوضية الأوروبية لأول مرة أيضاً ضرورة زيادة النفقات الدفاعية، فما هي الأبعاد السياسية والاقتصادية لهذه القرارات على علاقة أوروبا بالناتو والولايات المتحدة وروسيا؟ وهل لهذا القرار ارتدادات سلبية على المواطن الأوروبي؟

لغة القوة

أكثر المفردات التي جاءت في وثيقة «البوصلة الاستراتيجية» أن دول الاتحاد الأوروبي تقول إنها يجب أن تتحدث أخيراً «لغة القوة» بعد أن كان الدعم الاقتصادي والتدخل عن طريق المساعدات هي الأدوات والآلية التي اعتمد عليها الاتحاد الأوروبي خلال العقود الماضية. وتشرح الوثيقة التي جاءت في 40 صفحة بالدلائل والأرقام كيف تحول العالم إلى بيئة سياسية وأمنية خطرة للغاية، منها على سبيل المثال خلافات روسيا مع جورجيا ومولدوفا، واحتمالية تجدد الصراع في غرب البلقان، وسيناريو الخروج الفرنسي والغربي من مالي، المتوقع أن يبدأ بعد يوليو المقبل، والمخاوف من احتجاز أوروبيين في مناطق صراع بعيدة في آسيا والشرق الأوسط.

ورغم أن ألمانيا كانت في السابق أكثر المعارضين لأي توسع في الأنشطة العسكرية، عرضت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستينه لامبرشت، أن توفر برلين الوحدات الأولى لهذه القوة التي ستتشكل من قوات برية وبحرية وجوية، كما أن المناقشات الأخيرة لزعماء الاتحاد الأوروبي كشفت عن انفتاحهم على زيادة النفقات الدفاعية، وهو أمر لم يكن الحديث عنه متاحاً طوال العقود الماضية، التي كانت تركز على رخاء المواطن الأوروبي، وتحقيق أعلى معدلات من الازدهار والرفاهية، وهي قضية لا تزال تقلق البعض بأن توجه الاتحاد الأوروبي نحو مزيد من الإنفاق على الدفاع قد يكون على حساب رفاهية المواطنين الأوروبيين.

العلاقة بـ «الناتو»

كل التقديرات الأوروبية الحالية تقول إن القوة العسكرية الجديدة لن تكون على حساب الالتزامات الأوروبية في الناتو، حيث توجد 23 دولة من دول الاتحاد الأوروبي الـ27 في حلف الناتو، الذي يضم 30 دولة، لكن المؤكد أن هذه القوة ستعطي مزيداً من الاستقلالية العسكرية لأوروبا، التي لم يكن لديها أي خيارات لإجلاء رعاياها من أفغانستان بدون الولايات المتحدة وقوات «الناتو»، كما أن الدول الأوروبية بدأت بالفعل في رفع ميزانياتها الدفاعية، منها إقرار النرويج مليار يورو جديدة لشراء الأسلحة، كما أن النفقات الدفاعية الألمانية ستتجاوز 55 مليار دولار في الميزانية الجديدة، ما يجعل ألمانيا وحدها قريبة من الإنفاق الدفاعي لروسيا التي بلغ إنفاقها العسكري عام 2019 نحو 65 مليار دولار، كما تخطط بقية الدول الأوروبية سواء الأعضاء في «الناتو» أو غير الأعضاء للوصول بالإنفاق العسكري إلى 2% من إجمالي الناتج القومي، وهو ما سيوفر نحو 350 مليار يورو جديدة للميزانيات العسكرية الأوروبية.

ورغم أن خطة البوصلة الاستراتيجية ستستكمل عام 2025، إلا أن الحديث بدأ من الآن عن «البوصلة الاستراتيجية الثانية»، التي ستبدأ من 2025 وحتى 2030، فيما تقول كل المؤشرات إنها ستبحث في أن يكون لأوروبا «غطاء نووي» يتكامل مع المظلة النووية الأمريكية، ويدور الحديث عن تطوير الأسلحة النووية الفرنسية لتقوم بهذا الدور على المستوى الأوروبي، وكل هذا يؤكد أننا أمام تغييرات دراماتيكية تلحق بعالم ما بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

Email