جاري أبو حاتم وتلك السيدة !

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذكرتني تلك السيدة بجاري العجوز «أبو حاتم»، الذي تجاوز التسعين بقليل، لكنه بروح وجسد ابن الستين في 2022، لكنه يعيش كما لو أنه لم يزل في 1955. يصحو مع أذان الفجر، يذهب إلى المسجد مشياً بلا عكازة، يعود إلى البيت ثم يدخل إلى المزرعة المحيطة ببيتي وبيته، «يكسر السفرة» بحبات تين وعنب وما نضج في موسمه على الشجر. يشمر عن ذراعيه وقدميه، يتفقد الشجر، شجرة شجرة، وخاصة الزيتونات اللواتي غرسهن صغاراً وكبرن حتى ملأن البيت زيتاً وزيتوناً، ليس فقط البيت، بل شرايينه أيضاً، فإفطاره أساسه زيت الزيتون وبيض من الدجاجات اللواتي يربيهن في المزرعة، وحشائش تنمو على حواف الشجر، جرجير، حويرنة، أوراق بصل خضراء، فجل وما تجود به الأرض.

أبو حاتم قبل ثلاثين سنة ليس هو أبوحاتم خلالها وبعدها، لكنه لم يكن يأبه بما تفعله السنين بالإنسان. كانت خطواته تتثاقل، يداه تتعبان من حمل الفأس أو «الطورية»، ظهره ينحني تدريجياً فيصعد الدرج دون أن ينتبه لتراجع سرعته. كان يتعب عند الظهر، فيذهب إلى البيت إلى أم حاتم، شريكة عمره، وقد أعدت له طعام الغداء.

ورق عنب من الدالية، خبيزة من الأرض، أو دجاج من المزرعة. لم تكن تطبخ إلا بزيت الزيتون تماماً، كما كانت تفعل أمها في القرية قبل أن تهاجر هي وزوجها أبوحاتم إلى المدينة، ويفتحان في الحارة دكاناً صغيرة يعتاشان منها.

عندما عرفته أول مرة سألته: أين ابنك حاتم لأسلم عليه ؟

قال: ما في حاتم.

كيف ؟

قال: لم يرزقنا الله بأبناء وبنات. صبرنا أنا وأم حاتم. اعتدنا على ما ابتلينا به ورضينا. أولاد إخوتي وأولاد الحارة أصبحوا أبنائي. اسمع يا بني، من رضي بما كتب الله له عاش، ومن صبر نال. بإمكانك أن تغير كل ما تريد، ملبسك مأكلك، سكنك، لكن لا تستطيع أن تغير قدرك.

تلك إحدى الحكم، وهي كثيرة التي تعلمتها من خبرة أبو حاتم في الحياة.

أما حكاية تلك السيدة العجوز فيحكى أنها توجهت إلى شباك في البنك، لإجراء عملية سحب نقدي. سلمت بطاقتها المصرفية إلى أمين الصندوق وقالت: «أريد أن أسحب 10 دولارات».

قال لها أمين الصندوق: «لعمليات السحب التي تقل عن 100 دولار، يرجى استخدام ماكينة الصراف الآلي»، سألته السيدة العجوز لماذا؟

قال أمين الصندوق وهو يرد لها بطاقتها المصرفية «هذه هي التعليمات. رجاء ثمة عملاء خلفك... ينتظرون! يرجى المغادرة! إذا لم يكن هناك أمر آخر. ظلت السيدة العجوز واقفة صامتة لبضع ثوان، ثم أعادت البطاقة إلى أمين الصندوق وقالت: الرجاء مساعدتي في سحب كل الأموال التي في حسابي !

دهش أمين الصندوق عندما راجع رصيد السيدة العجوز وقال لها: لديك 50 ألف دولار في حسابك والبنك ليس لديه الآن هذا المبلغ حالياً. هل يمكنك العودة غداً؟

ثم ببرود؛ سألت السيدة العجوز كم يمكنها السحب على الفور، أخبرها أمين الصندوق: أي مبلغ لغاية 3000 دينار، قالت السيدة العجوز: حسناً، من فضلك دعني أحصل على 3000 دولار الآن.

عاد أمين الصندوق بغضب إلى الخزانة وأخرج رزماً من 20 دولاراً و10 دولارات وأمضى الدقائق العشر التالية في عد 3000 دولار، وناولها إياها ثم قال: هل هناك شيء آخر يمكنني القيام به من أجلك اليوم؟، بهدوء وضعت السيدة العجوز 10 دولارات في حقيبتها وقالت: «نعم، أريد إيداع 2990 دولاراً في حسابي».

هذه قصة قرأتها. قد تكون حدثت في أمريكا أو في بريطانيا أو فرنسا، أو ربما في أي دولة في هذا الكون، وربما لم تحدث، لكنها تحكي الكثير والكثير.

أهم ما تقوله: لا تستهينوا بكبار السن، مثلها ومثل أبو حاتم، فهم حتى لو انحنت ظهورهم، إلا أن أفكارهم لا تنحني، وإن ذبلت رموشهم فإن أرواحهم لا تذبل، أما تلك العروق الخضراء على أيديهم فإنها وشم العمل، الذي مارسوه طيلة عمرهم والخبرات، التي اكتسبوها، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من سعادة وراحة بال.

 

* كاتب أردني

Email