كتابة التاريخ.. الهروب إلى التأجيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما يوشك الشخص منا على الدخول، بقليل من التوجس أو كثيره، مرحلة زاهية من حياته المتبقية - التي سمّاها أحد الظرفاء (شباب الشيخوخة)- يُعتبر، بمعنى من المعاني، أنه أصبح تراثياً، يجمع ماضي الزمن وحاضره، ويأمل أن يحوز جزءاً من المستقبل، لكنه، وقد أصبح على هذا النحو من الحال، فإنه يمتلك من القدرات والتجارب المتميزة، ما تؤهله للقيام بأعمال كثيرة ذات جدوى، وذات طبيعة مختلفة، وفي مجالات متعددة. وجودة تلك الأعمال التي بمقدوره القيام بها، تتوقف بالدرجة الأولى على صحته البدنية، والنفسية، في نهاية المطاف، وعلاقته الوطيدة بالمزاج العام وتوازنه، والمزاج الإبداعي على وجه الخصوص، تضاف إليه البيئة الاجتماعية المحيطة، ومن ضمنها الأسرة المتناغمة، الخلية الأساسية في البناء الاجتماعي والإنساني، فمثل هذه العناصر كلها، متى ما اجتمعت في شخص، دخل مرحلة عمرية متقدمة من حياته، فلسوف يكون بمقدوره تحقيق ما يريد أن يكونه، ويرغب بتحقيقه لذاته، وللآخرين من حوله، وقد يتعدّى بذلك إلى مجتمعه ووطنه، وإن حالفه الحظ أكثر، فقد يصل بأثر فعله الإنساني إلى العالم الواسع.

شخص امتلك هذه المواصفات، في مرحلة عمرية زاهية كما نفترض، سوف يكون من ضمن قدراته الواعدة، كتابة الماضي، بملء الوضوح والدقة والموضوعية، الماضي الذي ما هو إلا تاريخه الذاتي، والآخرون، الشهود معه، في المكان، فمعلوم أن لا أثر للبشر بلا مكان، ولا مكان ذا أثر بلا بشر، سواء أقاموا فيه وبانوا، أو مروا عليه، وحقيقة المكان هذه معززة بقول للنبي العربي محمد، صلى الله عليه وسلم، (دياركم تكتب آثاركم).

وكتابة الماضي، قد تكون مروحة واسعة، تشمل فيما تشمل، المعلومات والأفكار والرؤى والوقائع، على اختلاف طبيعتها، وما كان يفكر فيه الشخص، من آمال وأحلام وتطلعات، بعضها استطاع تحقيقه، وبعضها ما زال مرحلاً، يحمله معه، عدا الكثير الذي سقط أثناء الرحلة، يضاف إلى ذلك، ما شهده في حياته من أحداث، وقع بعضها وانقضى، وبعضها امتلك قوة تجدده الذاتي، فتقدم معه ظلاً في الزمن. هذه كلها تشكل الماضي الذي يمكن، إن شئنا، سميناه تراثاً، أو سميناه مجازاً، التاريخ، على اختلاف طبيعته ومجالاته، وتنوّع أحداثه، ومعطياته ودوافعه، وتعدد فضاءاته الرحبة، كل ذلك ممكن في الكتابة، ومهمته ليست عسيرة.

واضح أن حديثنا هنا ينصرف إلى كتابة المذكرات، أو شبه المذكرات، كما يرغب الكثيرون أن يطلقوا عليها، وهم محقون بنسبة كبيرة، كون أن المذكرات ليست كل شيء، لتأخذ معنى الشمول، إنما هي البعض الذي أمكن الإفصاح عنه، والكشف عن تفاصيله، وكلمة (تفاصيلهُ) هذه، قد تكتسب أهمية خاصة لدى الكاتب العربي، دون باقي الجنسيات الأخرى الأجنبية، حيث في كتابتها عنت مضاعف بالنسبة له، بسبب محمولاته الثقافية، التي هي مزيج من القيم والعادات والتقاليد والأعراف، درج عليها المجتمع، وأصبحت جزءاً من مكونات شخصيته وهويته، لا يستطيع الكاتب الانسلاخ عنها، أو قطيعتها، عند الكتابة، أو حتى الالتفاف عليها فنياً، إن جاز التعبير. ولعله من هنا يفهم المرء أسباب لماذا المذكرات الشخصية، التي يكتبها الكتّاب العرب تحديداً، تخلو من جاذبية، أو ذلك التشويق، أو تلك الدهشة المحببة، التي ترفع نسبة الفضول، لدى القارئ، إلى ذروتها. والمسألة ذاتها تنطبق أيضاً على الكثير من الأعمال الإبداعية لدى أغلب الأدباء العرب، لا سيما، على وجه الدقة، في الأعمال السردية على اختلاف أجناسها. 

وختاماً، هل تعزّز مقالات كهذه الجرأة لدى القارئ لكتابة مذكراته المؤجلة؟

 

محمد حسن الحربي

إعلامي وكاتب صحافي

Email