لمن تقرع الطبول؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

«موت أي كائن ينتقص مني، فأنا معنيٌّ بالبشرية، ولذا لا تراسلني أبداً لتسألني لمن تقرع الأجراس؛ إنها تقرع من أجلك».

من هذه التأملات للشاعر الإنجليزي جون دون، اقتبس الكاتب الأمريكي أرنست همينغواي عنوان روايته الشهيرة «لمن تقرع الأجراس؟». والأجراس التي قصدها الشاعر، الذي كان كاهناً له تراتيل وتأملات في الموت والحياة، هي أجراس الكنائس التي تقرع للإعلان عن موت شخص ما، إذ يسأل من يسمعها: لمن تقرع الأجراس؟ ليجيبه من يعرف الميت الذي تقرع الأجراس من أجله:

إنها تقرع لموت فلان. ومع أن عبارة «لمن تقرع الأجراس؟» هذه لم ترد في رواية همينغواي، إلا أنه استخدمها عنواناً لها عندما صدرت عام 1940م، لتشكل مع روايات همينغواي الأخرى سلسلة من الأعمال الرائعة، التي تحولت كلها إلى أفلام سينمائية ناجحة، مع العلم أنه لم يكتب مباشرة للسينما.

رغم أن أحداث الرواية كلها تجري أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، التي بدأت عام 1936 وانتهت عام 1939م، إلا أن بطل الرواية الرئيسي هو الأمريكي روبرت جوردون، أستاذ اللغة الإسبانية المتخصص في عمليات الهدم والتفجير، الذي يتطوع للقتال مع الجنود الإسبان لصالح الجمهوريين. وتجري الأحداث عبر أربعة أيام وثلاث ليالٍ فقط، يخيم الموت خلالها على كل شيء، مجسداً أهوال الحروب ومصائبها التي تنال من الأطراف كلها، منتصرين كانوا أو مهزومين.

كانت المهمة المكلف روبرت جوردون بتنفيذها هي تدمير جسر خلال هجوم على إحدى المدن الإسبانية، بمعاونة مجموعة من عصابات الحروب. ومنذ اللحظة التي يبدأ فيها روبرت مهمته، يتراءى له أنه لن يخرج منها سالماً، إذ اعتقد أنه ميت لا محالة، إما مقتولاً على يد القوميين الذين تطوع في صفوف الجمهوريين لمحاربتهم، وإما منتحراً بيده فيما لو وقع أسيراً كي يتخلص من التعذيب الذي سيطاله لانتزاع الاعترافات منه. وما بين الخوف من موتين، كلاهما أسوأ من الآخر، عاش روبرت جوردون وأبطال الرواية ويلات الحروب وانعكاساتها على كل الذين يخوضون غمارها، باختيارهم أو رغما عنهم، مثلما صورها همينغواي في روايته.

ووسط أتون الحرب تشتعل جذوة الحب. وقد تمثل الحب خلال رواية همينغواي في العلاقة التي ربطت بين بطل الرواية الأمريكي روبرت والشابة الإسبانية ماريا، التي دمرت الحرب حياتها عندما تم إطلاق النار على والديها، وتم حلاقة شعرها من قبل القوميين في مدينتها. وتتجلى عاطفة ومشاعر روبرت تجاه ماريا بعد أن أصيب برصاصة في قدمه ولم يعد قادراً على الفرار، فيطلب منها أن تنجو بنفسها، ليواجه الموت وحيداً بعد أن نجح في تنفيذ مهمته، ونسف الجسر الذي كان يصل بين قمتي الجبلين ليمنع مرور دبابات القوميين فوقه.

نسْفُ الجسر في الرواية لا يخلو من رسالة بليغة، فنسف الجسور هو تعبير عن قطع التواصل بين البشر، وهو ما تفعله الحروب دائماً في كل بقعة تنشب فيها. ولعل هذا هو ما أرادت أن تقوله الرواية المستوحاة من تجارب همينغواي خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ممازِجةً بين بعض الأحداث الحقيقية وبعضها الآخر المتخيل.

«وامتطى أوغسطين جواده الآن، ولكنه لم يرد أن يذهب. وانحنى قريباً من الشجرة التي يتكئ عليها روبرت. فقال له روبرت:

- هيا امضِ في طريقك يا رفيق.. ففي الحروب تكثر مثل هذه الحوادث.

فقال أوغسطين:

- إن الحرب عهر.

- أجل يا رجل.. ولكن هيا.

- الوداع يا انكليزي.

- الوداع.

وأدار أوغسطين جواده، وهو يكيل السباب والشتائم، ومضى. وكان الجميع قد اختفوا عن نظره الآن. وعاد عند المنعطف ينظر وراءه ويلوح بيده. فرد عليه روبرت جوردون إشارته، ثم اختفى هو أيضاً عن نظر روبرت».

كان هذا هو الحوار الأخير بين روبرت جوردون وأوغسطين، غادر بعدها الجميع ومعهم حبيبته ماريا، ليبقى هو في انتظار الموت الذي تأكد هذه المرة من مجيئه، بعد أن رأى الفرسان يقتربون من شجرة الصنوبر التي كان يتكئ على جذعها، فاستلقى بهدوء محاولاً الاحتفاظ بوعيه الذي بدأ يتسلل منه، كما يذوب الثلج أحياناً عند منحدر الجبل.

إذا كان همينغواي قد حاول أن يقرع لنا الأجراس في روايته محذراً من الحروب، فها نحن نرى الذين يقرعون طبول الحروب كل يوم في كل مكان، غير مدركين أنهم إنما يقرعون أجراس الجنائز، وأن هذه الجنائز قد تكون جنائزهم هم أنفسهم قبل غيرهم.

* كاتب وإعلامي إماراتي

 

Email