الشاعر محمد بن جاسم بن محمد بن عبدالوهاب الفيحاني، المولود ببلدة الفويرط القطرية في حدود عام 1907 هو أكبر أحفاد تاجر اللؤلؤ الثري الشيخ محمد بن عبدالوهاب الفيحاني السبيعي. عانى الشاعر كثيراً في طفولته بسبب فقدان أمه ثم خالته، ما جعله رقيق المشاعر ويفضل العزلة والانطواء. وحينما انتقل والده من قطر إلى دارين، زادت عزلته بسبب اختلاف البيئة التي ولد فيها عن بيئة دارين.
درس في المدرسة المباركية بالكويت المواد الدينية، لكنه كان منجذباً بصفة خاصة إلى الأدب والشعر، فقرأ في ريعان شبابه العديد من الدواوين الشعرية لكبار الشعراء العرب القدامى، وحفظ قصائدهم واطلع على أساليبهم البلاغية وتماهى مع سيرهم الذاتية، ما شجعه على نظم الشعر.
الذين درسوا قصائده اكتشفوا فيها صوراً بلاغية جميلة وأحاسيس وجدانية متدفقة، خصوصاً وأنها تناولت موضوعات متنوعة تراوحت ما بين الوجدانيات والغزل والنصائح والمساجلات بصورة فيها خليط من التشويق والغموض والإخلاص والحب.
لكن أكثر ما اشتهر به شاعرنا هو قصائده في الحب العذري العفيف. ولهذا قصة هي من صميم سيرته الذاتية. فلقد هام بكل جوارحه بحب ابنة خاله التي رمز لها في أشعاره باسم مي، التي قيل إنها كانت جميلة وفاضلة شكلاً وخلقاً إلى درجة لم تجاريها فيها أي فتاة في عصرها. وحينما أراد أن يكمل قصة حبه وولهه بابنة خاله بالزواج منها، وقفت التقاليد والعادات الاجتماعية السائدة آنذاك عائقاً أمامه. حيث كانت الفتاة محجوزة لابن عمها وفق العادات القديمة. لم يستسلم الفيحاني، وحاول بشتى الوسائل أن يقنع والد محبوبته (خاله الكواري) بالتراجع عن قراره، فلم ينجح، وأصابه الحزن لأنه لم يصدق أن «مي» التي تعلق بها منذ يفاعته وصباه المبكر ستكون لغيره.
وهكذا تركت الواقعة أثراً بليغاً أدمى قلبه، فلم يجد أمامه سوى أن يظل وفياً لذكرى حبه العذري الشريف، وأن يعبر عن معاناته وانكساره وهزيمته ولوعاته بالشعر والقصائد الملتهبة التي ظل يرسلها إلى أصدقائه وكبار رجالات زمنه، علَّ أحدهم يبادر بالتوسط لدى خاله. غير أن مساعي كل هؤلاء باءت بالفشل. وعندما شعر أنه لا جدوى من إقناع خاله إطلاقاً، قرر أن ينطوي على نفسه، ويعتزل الناس، ويعيش على ذكرى «مي»، مع إيمان عميق بأن الحب الصادق لن يموت أبداً، فسماه معاصروه «مجنون مي».
أحد أشهر قصائد الفيحاني التي نظمها في صيغة رسالة إلى محبوبته هي القصيدة التي تبدأ بـ«شبعنا من عناهم وارتوينا/ وعند رسوم منزلهم بكينا.. وعقب فراقهم شنا وحنا/ وحنينا وثم إنا عوينا.. وسايمنا وساقمنا وحنت/ لنا حتى المنازل والعنينا»، والتي لحنها وغناها لأول مرة مطرب البحرين الشعبي عبدالله سالم بوشيخة. لكن الذين قاموا بغنائها لم يغنوا سوى 14 بيتاً منها من أصل 42. ومن قصائد الفيحاني الأخرى التي نظمها في عشق مي، والتي اشتهرت بعد غناء عبدالله سالم بوشيخة لها قصيدة «قصت حبالك» التي يقول مطلعها:
قصت حبالك من عقب وصلها مي
واستبعدت من عقب ما هي قريبه
ومن المحبه ما بقى عندها شي
صارت عقب ذيك الصداقة حريبه
مرض الفيحاني، بسبب أوجاع العشق واللوعة والانعزال والامتناع عن الطعام، مرضاً شديداً، وشحب لونه، وأصابه الهزال والأرق فنصحه أصدقاؤه بالذهاب للاستشفاء في مستشفى الإرسالية الأمريكية بالمنامة، لعدم وجود مستشفى في قطر آنذاك، ففعل لكن حالته راحت تزداد سوءاً ودخل في غيبوبة بسبب تأخره في العلاج، إلى أن أغمض عينيه إلى الأبد في 17 يناير 1939 فدفن في مقبرة القضيبية بالمنامة. وبهذا تم إسدال الستار على واحدة من أروع قصص العشق في الخليج.