ثَمّةَ دِفْءٌ آخر

ت + ت - الحجم الطبيعي

الساعة الخامسة فجراً. قائد الطائرة يعلن عن بدء نزولها التدريجي استعداداً للهبوط في مطار أبوظبي الدولي. من نافذة الطائرة تلوح أضواء العاصمة أبوظبي.

مثل فتاة وديعة تغفو هذه المدينة الجميلة، يحيط بقلبها البحر من كل الجهات. خارج حدود البحر يبدو العمران ممتداً بعد أن ظهرت مناطق جديدة تكاد توصلها بدبي من ناحية الشمال، وبالعين من ناحية الشرق، ولا يوفر الامتداد العمراني ناحية الغرب أيضاً. لم تعد أبوظبي تلك الجزيرة التي لا يمكن الدخول إليها إلا من خلال جسر المقطع الذي كان قبل أكثر من أربعة عقود هو المعبر الوحيد للمدينة.

تكاثرت الجسور لتلبي تدفق القادمين من مختلف الأنحاء، وخرج الناس إلى المناطق الجديدة، بينما بقيت الجزيرة الجميلة المركز التجاري والمالي والإداري للعاصمة. كم هي آسرة هذه المدينة وجميلة ودافئة!

شريط طويل من الذكريات يمر أمامك، بينما الطائرة تنزل عجلاتها استعداداً للهبوط على مدرج المطار. عما قليل تلامس العجلات الأرض لتنزلق الطائرة على المدرج بسرعة كبيرة، قبل أن يبدأ القبطان في تهدئة سرعتها حتى تقف في المكان المخصص لها. تُرى بأي سرعة مر الزمن؛ هل هي سرعة الطائرة في السماء، أم سرعتها على الأرض؟

تسأل نفسك مستذكراً السنوات التي مرت منذ أن دخلت أول مرة هذه المدينة المسوّرة بالبحر. كنت وقتها طفلاً صغيراً يدهشك كل شيء، وكان الانتقال من مدينة في الشمال إلى أخرى في الجنوب باعثاً من بواعث الدهشة لا تستطيع مقاومته.

كنت على وشك الاستغراق في إعادة عجلة الزمن إلى الوراء لتبدأ رحلة في الذاكرة، لولا أن مضيفة الطائرة أبت إلا أن تنتزعك من تلك اللحظة، وتنتزع منك تلك الفكرة المغرية، داعيةً الركاب إلى مغادرة الطائرة، مذكِّرةً بعدم نسيان شيء من الأمتعة التي يحملونها معهم.

كانت حقيبة الذكريات التي كنت تحملها أكبر بكثير من الحقيبة التي دعتك المضيفة إلى عدم نسيانها في الطائرة. ما أن فُتِح الباب حتى استقبلك الهواء البارد المنعش في هذا الوقت المبكر من النهار الذي لم تشرق شمسه بعد. معطّرٌ هو هواء الوطن في أي وقت تشمّه. ليس للأمر علاقة بالحرارة والبرودة. له علاقة بالقلب المتجه ناحية الوطن بكل تضاريسه واختلاف فصوله.

قبل أسبوعين تقريباً من هذه اللحظة، بعيداً عن أرض الوطن، كاد قلبك ينخلع وأنت تستمع إلى الأخبار القادمة منه. من هو ذلك الجبان الذي يجرؤ على تدنيس سمائه؟

من هو ذلك الأخرق الذي يجرؤ على إرسال الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية إليه؟ من هو ذلك المعتوه الذي يظن أن العالم سيصدق البيانات العنترية التي يلقيها ناطقه العسكري الأخرق؟

قُطِعت اليدُ التي تمتد إلى الإمارات وشعبها والمقيمين على أرضها. لم يتأخر الرد كما توقعت. قبل أن يطلع نهار اليوم التالي كانت حصون المارقين من «أنصار الشيطان» تُدّك وتُسوّى بالأرض. يهددون بأنهم سيكررون المحاولة وهم يعلمون أن محاولاتهم ستبوء بالفشل. يكررونها، لكنهم يفشلون مرة في أثر مرة. ليس ثمة من يستطيع تركيع الإمارات أو النيل من كرامتها، وحملها على تغيير مواقفها.

في المطار تتم إجراءات الدخول بيسر وسهولة. الوجوه التي تستقبلك في قاعة الوصول مشرقة وباسمة. ليس ثمة من يشعر بالخوف أو القلق مثلما ادّعى «أنصار الشيطان». ليس ثمة من يفكر في مغادرة هذا البلد الآمن الأمين على كل من يقيم على أرضه. تُنهي إجراءات الدخول ثم تخرج من المطار.

كان ضوء النهار قد بدأ يكسر حاجز الظلام معلناً بدء يوم جديد، وبدأت السيارات تدب في الشوارع حاملة الكبار إلى أعمالهم، والصغار إلى مدارسهم. ليس ثمة فزع وذعر مثلما يحاول ناطق «أنصار الشيطان» العسكري المتشنج أن يصور في بياناته العسكرية، أو مثلما تحاول الفضائيات التي تفسح لهم المساحات لنشر أكاذيبهم أن توحي لمشاهديها.

بعد أيام تفتح الصحف فتجد تقريراً لوكالة «رويترز» يؤكد أن هجمات الحوثي الإرهابية على منشآت مدنية في الدولة لم تُثنِ السائحين عن التدفق إلى الإمارات سعياً للتمتع بدفء شتائها. في التقرير تصريحات لعدد من العاملين في قطاع الضيافة، يؤكدون فيها أن نسبة إشغال الفنادق في الدولة قد ارتفعت، وفيه شهادات لعدد من السائحين يؤكدون فيها أنهم يشعرون بالأمان التام في الإمارات، وأنه لا شيء يزعجهم على الإطلاق.

ليس دفء شتاء الإمارات وحده هو ما يجعل السائحين يتدفقون إلى دولة الإمارات. ثمة دفء آخر يدفعهم إلى ذلك؛ إنه دفء قلوب ومشاعر أبناء الإمارات والمقيمين على أرضها.

* كاتب وإعلامي إماراتي

 

Email